على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -11-

غيبوبة الشيخ

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

p هناك جانب ملغز في تشكيل صورة علي بن حمدوش، فقد نقلت عنه أخبار كثيرة. من كان يتعهد هذه المرويات؟

p وإذا كان لشيخ الطريقة العيساوية الهادي بن عيسى – رضي الله عنه – مُلازم يلازمُه كظلٍّه، يأخذ عنه الطَّريقة بالعَهد والصحبة، ويَروي للناس عامة ما قد غاب من أخبار الشيخ، وما خَفِي من أسراره، فإن لشيخ الطريقة الحمدوشية ملازما يَروي عن الشيخ الحمدوشي ما كان يُروَى في حظيرته، ويبلغ للناس تعاليمَه وتـَوجيهاته.
نعم، فالأول، قد برزت مكانتُه عند الهادي بن عيسى، وهو الشيخ المحجوب أبو الرَّواين، والثاني كان في حياته فريدَ عصره عند الحمدوشيين، وهو الشيخ أحمد الدغوغي – رضي الله عنه – كان في طليعة مجلس العَشرة الذين حاوَلُوا نشر الطريقة الحمدوشية في المُدن والقـُرى، وهُم المكلـَّفون – أيضا برسُوم الطَّريقة، ونَشْرِ أخبارها، وتعاليمها في الأوساط بأمر ورعاية من الشيخ علي بن حمدوش – رضي الله عنه -، وفي نطاق الإشادة بالطريقة الحمدوشية أشارَ المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان في كتابه “الأتحاف” إلى أن أحد العلماء من رجال الصلاح، ألفَ في مناقب الشَّيخ عليّ بن حمدوش مؤلفا، سمَّاه : “الذَّهب المنقوش، في مناقب وَليّ الله، سيدي علي بن حمدوش”.
وبالإضافة إلى هذا الكتاب، فقد حَظِيَ الشيخ بالثناء عليه، والاحتفاء بمواقِفه، والتـَّنويه بأتباعه، ومُريديه في عدة مراجع ومصادر، كما لقِيَ عناية خاصة من بعض شعراء فن الملحُون، الذين نظموا شِعْرًا رقيقا في مَدْحِ الشيخ عليّ بن حمدوش، وفي إبراز مناقبه وكراماته، ولعلَّ محاربة شيخ الطريقة الحمدوشية للخرافات التي انتشرت في صفوف العامَّة، يُشير إليها أحد شعراء الملحون في هاته الصُّورة الشعرية الآتية :
رَاهْ طْريقـَكْ صَافْيَة مَنْ الـْعـَارْ ** وَاضْحَة، مَا فِيهَا اخْـبـَالْ
مْحَصْنَة بالإسلام
الصّْلاة، والـْحَمْدْ، وَالشَّكـَرْ ** بـِهَا الـْـخِيرْ، كـَا يَـتـْـنـَالْ
كـُلـْشِي بَتـْمَـامْ
الـْوَرْد، وَالـْحِزْبْ، والذَّكـَرْ ** بْطَعْريجَة، وْغِيطَة، وَاكـْوَالْ
تـُوضَّحْ بِهَا سَرّْ الـْكـْلامْ
مَا فِيهَا بَدْعَة، وْلا فـَجُورْ ** مَنْ غِيرْ التَّسبيحْ، وَالـْحـَـالْ
وَتـْشـُوفْ سَرّْ اللهْ الـَكـْرِيمْ …
ومن فن “الرُّباعي” تـُسجِل الذاكرة الشعبية ألوانا شتَّى من الأدبيات التي شاع صيتها وذاع، وملأ المحافِل والأسماع، ومنها قول القائل:
يَا بَنْ حَمْدُوشْ، إلـَى هْـدَاكْ عْلِيَّ رَبِّي
فَــــــاشْ جِيتَـكْ، وَنـَـــــا لِكْ عَـــبْـدْ مَمْلُوكْ؟
يَاكْ سَرِّي، فَـــــــي صْنَادَقْكْ خَبـيتـُو
كـَالـُو فِيهْ الـْفضَّة، وْفِيهْ الذْهَبْ الْمَسْبُوكْ …

p لنعد إلى مظاهر التعذيب، التي قلت إنها دخيلة على الطريقة ومسلكها..

p نعم، فمن خلال ما سُقناهْ – ولَو في عُجالة سريعة، وجَولَة عابرة – حول الطريقة الحمدوشية، وشيخها عليّ بن حمدوش، في مجالات التَّهذيب والاتّباع، سنقدم ما نستدل به في مجالات التَّعذيب والابتداع، وهو أمرٌ دخيلٌ على الطريقة، وليس من شأنها في الأصُول والفـُروع، وفي مقاصِدها العامَّة، كما خطط ذلك مؤسٍّسها عليّ بن حمدوش – رضي الله عنه – .
وواقع الأمر أن هذا التعذيب الذي يُمارَس عند الحمدوشيين بأشكال وحشية، أثناء الشطحات بالضَّرب على الرؤوس بقضيب من حديد، ورُبَّما بسكين حادّ، تحصل اللَّذة عند المُريد بامتصاص الدّم، وهو ينزف من أطراف البدن. نعم، ففي مثل هاته الحالة يَتِمُّ الاعتراف بالمُريد الرَّاقِص، وتـَرجَى بَرَكتُه – كما يزعمُون – والاستعانة به في قضاء المآرب.
هذه المشاهِدُ من التـَّعذيب، يُراد بها التـَّقربُ من غَيْبوبَة الشيخ، وهي غيبُوبة ربَّانية لا علاقة لها بمَا يُقومون به من مظاهر لا تـَليق بَمن يدَّعِي أنـَّه في حِمَى الله.
وعليه، فالحضرة الصُّوفية عند الشيخ علي بن حمدوش، هِيَ أذكار وتوسُّلات في تضرّع وخشوع، وهي أوراد، وأحزاب موقوتة، تَعنِي حُضورَ القلب مع الله، بعد الاستعداد التامّ لهذا الحضور. وكان يقول الشيخ لأصحابه ما نصُّه: “اِحذَروا ذكرا بدُون حضور القَلب معَ الله، واعلموا بأن لذة الأذكار ووقعها في نُفوس الذاكرين، لا تحصل بالشطحات، ورَقص الرَّاقصين، ولا عند الذين نَسُوا الله، فأنساهُم أنفسهم “!
ومرة أخرى سمع من بعض أصحابه ما سَمع، فقال لهم – في غضب -:
“إياكُم أن تكُونوا ممن يذكرون الله، وهُم يُلهُونَ نـُفوسَهم، عن جلالِه وعظمته بما يُوقِّعُون، ويَنْتشُون بضُروب من السَّماع، فهُو لـَهْوٌ، تنصرف به النفوس عن حضور القلب معَ الله … ” انتهى قوله (ينظر كتاب: مسالك صوفية للطريقة الحمدوشية للمؤلف”.
وهكذا، فإذا كانت غيبوبة الشيخ علي بن حَمدوش ربانية، فإن الغَيبوبة التي يَسعَى إليَها المريدون بأشكال التـَّعذيب شيطانية، تتجاوزُ عتَبة الدِّين وتخرج عن المألوف والمعتاد. إذن، فهي ابتداع ابتدعه الأواخِر، على غَير هدي مما رَسَمه الأوائل في هذا الباب.
ومن بعض حالات الغَيبوبَة عند الشيخ، يذكرون أنه كانت تعتريه في التَّهجُّد، والانقطاع عن الناس في شهر شعبان، وفي ربيع الأول من كل سنة، فتغيب وظائف حواسِّه أثناء الذكر، وأداء النـَّوافل على غير المعتاد. وذَكَر – في هذا السياق – تلميذه أحمد الدغوغي أنه دخل عليه يوما في أواخر شهر شعبان، فلم يلتفتْ إلـَيه، لأنَّه- في مثل هاِته الحالة – لا يسمع ما حواليه كما يسمع غيرُه، ولا يرى ما حواليه كما يَرون، ولا يتكلم، كما يتكلمون، بل لا يتحرك منه عضو من أعضاء جَسده طيلة المدَّة التي يجلس فيها للذكر والعبادة، والتأمل في ملكوت الله.
وقد تقصر هذه المدة أو تطول، تحدث في النهار، أو في الليل… ومع توالي الأيام والسِّنين، اِستحدث بعض أتباعِه ومُريديه، عادات، وتقاليد، لم تـَكن معروفة في عهده، ومنها السَّعي إلى الغَيبوبَة بالضرب على بعض الآلات الموسيقية الإيقاعية لاصطياد أهواء العامة، ولِفَصْلِ نَفس المُريد الذاكر عن جَسَده – كما يزعمُون – وإيلامِه ألمًا شديدا لينسَى ما يحيط بالنفس من ماديات، وشهوات، تأديبا لها على ما اقترفتْ في جَنب الله من ذُنوب وآثام على غِرار مذهَب “الملامتية” … فأيُّ عبادة خالصة يُعبَد بها الله تعالى، وتُمارس على مَرْأى ومَسْمَع من النَّاس؟ إذا كان فيها الذاكر، والعابدُ يعذب نفسَه، ويُخيف غيرَه بما يَقوم به من حركات جُنونية، لا يَقوم بها إلا من أصابَه مَسُّ من الجنون، أوْطاشَ عقلُه، وعَمِيتْ بصيرته، فكان حقا ممَّن نَسُوا الله، فأنساهم أنفسهم!


الكاتب : إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 13/03/2025