على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -12-

 

ما ضاع من السر

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

n هل ظلت غيبوبة الشيخ مصدر إلهام لأتباع الطريقة الحمدوشية، ومحركا لابتداع تصرفات عنيفة مع الجسد؟ يبدو أن لهم طريقة مختلفة في فهم ألم الجسم الذي عادة ما يركز الانتباه على حالة الجسد، ليس على تجارب الروح..

p وإلى اليوم لايزال الأتباع والمُريدون يتحايَلُون للوصول إلى غيبوبَة الشيخ علي بن حمدوش بأشكال أخرى مختلفة، وبأقدار من التـَّعذيب دُون الوُصول إلى سُموّ النـَّفس بالغَيبوبَة الربَّانية الخالِصة ، والتي كانت تتواجَدُ بها نفسُ علي بن حمدوش بدُون تصنع ولا افتراء في المظاهر الكاذبة، وهو في حَضرة الذاكرين، الخاشعين، على هَدي من الله، وشريعة رسوله الأمين، محمَّد – صلى الله عليه وسلم – إذن، فالحواسُّ تُصقـَل وتنحرف عن عاداتها بالمُجاهدات، وبالنور الذي ينبسِط من حضرة عالم الغَيب الذي يُظهرُ غيبه لمن اِرتضى من رسول، ومَن يشاء من عِباده، وعلى قـَدر ما تـُريده مشيئتُه وإرادته، فالمكاشفات للأولياء في أوَّل سلوكهم معَ المريدين، ضَرب من ضرُوب «الإلهام»، وقـَبَسٌ من النـُّبوة، يَهَبُه الله لمن يشاءُ من أوليائه وأصْفيائِه.
ومرَّة تقدَّم أحَد أتباع الشيخ، ليسأل عن شيء في نفسِه. فقال له عليّ بن حمدوش: اِحتَفظ بسؤالك، فغدا – إن شاء الله – سأجيبك. وفي الغَد، أجَابَه الشَّيخ عمَّا كان يحتفظ به لنفسِه في سؤاله؛ فتجرأ المُريد على الشيَّخ في خُلوة مَعه وقال له: بمَ اهتَديت للجواب عن شيء لم أبُحْ به؟ فقال الشيخ ما نصُّه:»حِينَ يَصفُو قـَلبُ المريد، بصفاء قلب شيخه، فليس بينهما حجاب»!! (ما يسمى بتوارد الخواطر عند علماء النفس).

n مثير، يغدو الأمر كما لو كان تجربة اتحاد روحي..

p الشيخ يَعلَم – بصفاء قلبه – مالا يعلمه المُريد عن نفسه، وإن تخلَّلهم هذا السِّر الإلهي في وقت دُون وقت. وبالصفاء تـَلُوح أعلامُ «المكاشفات» في حَضرة السَّالكين، الواصِلين.
وذكروا – في ما يَروُون عنه من أنوار سيرة حياتِه – أنَّه كان له عَرف من شعَر رأسه طويل، وكان، يَشدُّه بخيط يَربطُه بشجرة يستظل بظلِّها، لإيقاظه كلما غلبه النـَّوم في الهَجيرة، وسُئل – يومًا – عن هذه الحالة فقال – رضي الله عنه -: «لقد نذرتُ نَذْرًا لله إذا مضى يَومي، ولم يُهاجْمنِي الشَّيطان، خففت عن نفسي ثِقْلَ هَمِّي، وغمّي، وإلاَّ شددت عليها بوثاقٍ من الحزم، وجعلتُ من الخيط الذي يربطني بالشجرة مُنبها، وشاهدا من شهداء الحق، على عُتوّ نفسي، وتيهها وكبريائها. وقيل له – في نفس المناسبة -: كيف تُخفِّف من ثِقْلِ هُموم نفسِك؟ وكَيف تـَشْتَدُّ علَيها؟ فقال: ففي الأولى، لا يَسعني من وقتي في رغائب النفس إلا ما تمليه عليَّ شريعة الله! وفي الثانية، أمنع خير نفسي، على نفسي، وأحرمُها من زَادِ «اللَّوامة» وأقيّدُها بحبال من طغيان «الأمَّارة» حتى لا تستطيع الخلاص من خُبثها، ورعونتها !!».

n قد يكون هذا التصرف مع الذات، مصدرا لتأجيج المظاهر المتطرفة التي ظهرت لدى الأتباع في تعذيب الجسد..

p قلت سابقا إنَّ مظاهر «شدْخ الرُّؤوس» خلال شطحات الحمدوشيين، أمر فيه ابتداع وخُروج عن جادة الصواب ورُسوم الطريقة كما دعا إليها الشيخ الحمدوشي في حياته. ونظرا لعلو مكانة الشيخ عليّ بن حمدوش، وما كان له من زاد صُوفي عَميق، ومنزلة عِلمية بين علماء وَفقهاء عصره، ننفي عن طريقته ظاهرة «شَدْخ الرُّؤوس» وما يعقبها من تعذيب ووحشية تتجاوَز – في مظاهرها – عتبة الدِّين. وهذه الظاهرة لها أسبابٌ تحكي بَعْضها «الذاكرة الشعبية» على تعاقب الأجيال المغربية.
في هذا الصَّدد، يقول الحمدوشيون: إن الذي يشدخ رأسَه، هو «دغوغي» وليس «علاًّلي»، أيْ أن الظاهرة – في الأساس – منسوبة إلى أبي العباس «الدغوغي»، وليس لشيخ الطريقة عليّ بن حمدوش – رضي الله عنه -.
وفي هذا السياق أشار مؤرخ مدينة مكناس عبد الرحمن بن زيدان فــي كتابه :»الأتحاف» إلى روايتين : تقول الأولى إنَّ الشيخ الحمدوشي غابَ يوما عن أصحابه على غير المعتاد منه، فظن بعضُ أتباعه أن هناك سببا قاهرا في عدم خُروجه، فتملكهم خوفٌ شديد على الشيخ، فاختارُوا من بينهم – للوقوف على حالة الشَّيخ- تلميذه الملازم له، أحمد الدغوغي، فلما دخل عليه، وجده قد انتقل إلى دار البقاء، فلم يتمالك نفسه من هَولِ الصَّدمة، فَارتـَمى على رُكام من العِظام، وشرَعَ يضرب بها رأسَه ضربًا شديدا حتى أغْمِيَ علَيه، وتقول الرِّوايةُ الثانية : إنَّ الشيخ عليّ بن حمدوش أرسلَ – يومًا – تِلميذه أحمد الدغوغي في مُهمَّة إلى بلادٍ بعيدة، وقبل أن يغادر مكان الشيخ، أودعه سرًا من الأسرار، وطلب منه أن يذكره في نفسه، ولما ذكره وجد نفسه في البلاد التي أرْسله إلَيها، ومن شدة انبهاره وتعجُّبه، غابَ عنه مفتاح السٍّر، فَنسيَ رسالة الشيخ، وما أوْصاه به، فعاد إلى مَوطِنه، حيث يوجد الشيخ عليّ بن حمدوش، ولما وصل إلى مدينة زرهُون، وجد أتباع الشيخ مجتمعين في حِيرة، لأن الشيخ لم يخرج إليهم – كعادته – ولما رأوا أحمد الدغوغي اِنتدبوه للدُّخول إلى مَسكن الشيخ، وحين دخل عليه وجده مطروحا على فراشه، فأدرك أنه فارق الحياة، ورحل إلى دار البقاء، فأخذ يضرب رأسه بكل ما وجده أمامه من شدة حزنه على موت الشيخ، وحسرته على نِسيان السر الذي تلقاه مباشرة من شيخه فخرج إلى أصحابه على حاله، فأخذوا يُقلدونه كلما حلت ذكرى وفاة الشيخ. ومع توالي الأيام والسّنين، أخذ «الدغوغيون» يُنوعون وسائل التعذيب والابتداع في العادات والتقاليد، فتناسلت هذه الوسائل على تعاقب الأجيال، وتعددت فـُرق «الحمدوشيين»، ومنها «الشاكرية» و»الزرزبانية» و»الحمل» و»القالب» … وأدخلُوا طقوسا ومَراسيم أخرى، كما أحدثوا أذكارا وأورادا في قوالب زجلية تُنشد أثناء شَدخ الرؤوس، وتعذيب أطراف الراقصين. وهناك طوائف أخرى انبثقت عن جماعة الدغوغيين، مثل: «السَكَّاكين» و «الرياحين» و»الملياعيين» هؤلاء يستعملون النار أثناء شطحاتهم، وأذكارهم في أحوالٍ لا طاقة للإنسان المَدني مُشاهدتها، بَل لا يُوجَد لها تفسير، ولا تعليل، و»الصّديقيين»: وهؤلاء يتناطحون في ما بينهم بالرؤوس، حتى يُغمَى عليهم، و»الرحَّاليين»: وهذه الطائفة تشرب الماء الساخن في دَرجة عالية من الغليان، وهؤلاء ينتسبون إلى الشيخ رحَّال الكـُوش – رضي الله عنه -.


الكاتب : n إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 14/03/2025