على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -14-

شرشمة ولمشايشة وتهراس الكاس..

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

n لنكمل حديثنا عن العادات التي كانت منتشرة في حومات مراكش..

p من هذه العادات المراكشية القديمة التي عِشتُ بعضها في الطفولة، عادة»لَمْشَايْشَة»، وهي كلمة مأخوذة من «لَمْسَايْسَة» بمعنى سَاسَه، أيْ رَوَّضه، وتحيَّن الفُرصة لإيقاعه على الأرض؛ وهذه اللعبة تـُشبه ما يسمى ب «المصارَعة» ولكن يَسمح فيها بالأرجُل فقط، يمارسها من كان يُسمَّى ب «لـَعْزَاوي» داخل الحومة، وهُم أشخاص أقوياء، على شاكلة ما هو معروف عند المصريين «الفتوة»؛ ووقتها السَّنوي عند مُمارسيها، نهايَة ليلة تاسع محرَّم، والفائز فيها يُعتبر بطل الحومَة، يُحمَل فوق الأكتاف، وعُرفت عند المراكشيين من أيام سيدي محمد بن عبد الله .
ثم هناك تاقـُورَة: وهي لعبة تشبه لعبة «الهوكي»، حيث كانت تمارس في فضاءات شاسعة بين فريقين من الرجال – يومئذ -، متساويين . وهي «كرة خشبية» كبيرة تلعب بالعصي، وغالبا تمارس هذه اللعبة في عيد الأضحى، وكانت تتميز بالخشونة مما يلفها من عادات لا علاقة لها باللعبة أساسا.
كانت لعبة «تاقورة» من اللعب التي لَها شعبية كبيرة في صفوف أهل حَومة اِسبتيين، وكنا نحن أطفال، وشباب هذه الحَومة يُقابلنا فـَريق حَومة «بنصالح» من حين لحين، والفـَريق الفائز، يلعب في الدَّورة القادمة مع فائز حَومة «دَرب ضباشي» وكثيرا ما كانت تسبب هذه اللعبة في كَسْر سيقان اللاعبين، وإذا حدث هذا أقصِي الفريقان معا من ممارسة اللعب، إلى السنة القادمة؛ ولهذا هاجَمها – يومئذ – بعضُ العلماء، والفقهاء، واعتَبروها ألهية يتلهَّى بها اللاعبون عن الجادة في أوقاتهم، بلْ تحدث عند جمهورها العريض، أمور من عوائد القـَوم، يجب أن تُحارب، ومنها اختلاط نساء الحَومة بالرّجال، وهذا لم تقبله العقلية السائدة يومئذ.
واسم «تاقـُورة» جاء من الأمازيغية «تَاكُورتْ»، ومعناها الكرة؛ ويقول المؤرخ الإفريقي»هيردون»: إنَّ هذه اللعبة مَارسها المغاربة الأقدمون، وكانت من الطقوس الدينية التي يتقربون بها من آلهة المطر «تانيت»، طلبا للغيث؛ وقد اِنقرضت بالمرَّة في صفوف الأطفال، والشباب بداخل حومات مراكش.
شَرشْمَة:
تمت الإشارة إلى هذه الكلمة سابقا، ولَها مفهوم آخر عند المراكشيين، وهي عادة أصيلة، تمارسها الأسَر التَّقليدية عندما تظهر «الأسنان» الأولَى للطفل، حيث يتم طبخ قدر من «القطنيات» ، ويتم استدعاء الأطفال – في سنه – للاحتفال بالطفل الذي بدأت أسنانه تظهر في فمه ؛ ومن عاداتهم : يضعون على الطفل ثوبا أبيض، مُطرَّزا، وفوق رأسه سوارا «دملجا»، ووسطه بيضة، وتختار الأسرة من يتوفر على أجود الأسنان، وأنصعها، اعتقادا منهم أن الطفل المحتفى به ستكون له نفس الأسنان عند زميله ؛ ثم يبدأون في سكب الطعام على الطفل، بينما الأطفال يتخاطفونه في تنافس ؛ ولعل هذا الاحتفال له مقاصد أخرى، ومنها تنشيط الأطفال، وإدخال السرور على العائلة، والتعرف على أطفال الحيّ، وهَدم ستار الأوضاع الاجتماعية في ما بينهم.
ذيالتْ عاشُوراء : وهي الذنب، أو ذيل أضحية العيد، يتم الاحتفاظ بها إلى تاسع محرَّم، حيث تطبخ مع الكسكس بالخُضر … وهي عادة مَشْهُورَة في كثير من المُدن المغربية، تجرُّ بعضَ العوائد الضارة في سلوك المُسلم الموحِّد ؛ ومنها على – زعمهم – ، أنَّ «ذيالت عاشوراء» إذا كُفِّنت على طريقة الميت، ودُفنت في مَقبرة المدينة، قرب قبر مجهول، حالت بينهم، وبين عَين البَشر والسَّحر، خلال سنة كاملة ، فلا تُصاب العائلة بسُوء، ويمكن أن تحوَّل إلى ما يُسمَّى ب «التـّوكـَالْ» عند العامة، حين تـُستخرج من مكانها، بعد مُضي سنة كاملة، فيُطبخ مَا بقي منها ويقدم إلى من يُراد به الهلاك المُميت.
ومن عَوائدها الضارة بالموحد: يؤتى بها قبل غروب شمس تاسع محرم من السنة القمرية على وضوء، ثم يُقرأ عليها قبل طبخها سورة «الكهف»، وسورة «ياسين» و»المعوذتين»، ثم تقدَّم لمن به داء الوسواس في الصلاة فيشفى في حينه، وتـُكرر هذه العَملية ثلاث سنوات متوالية…
شْطاطُّو «الغربال»: تزعم العامة إذا دخل السّجن من وقع عليه ظلم ظالم، فعند خُروجه منه، يختفي شخصان من أقربائه، ويفاجئانه بوَضع «الغربال» فوق رأسه بقوة إلى أن يُمزَّق، فلا يعود – أبدا – إلى السجن مرة أخرى؛ واستعمال الغربال في هذه الحالة، رمز للتصفية وتنقية ما بقي في داخل نفس المظلوم، حيث يصارح هذه النفس، هل كان – حقا – مظلوما؟ أم كان ظالما؟ ولأن الغربال في وظيفته يُستعمل للتنقية … (وفي هذه العادة تنقية النفس من خبثها (مجازا).
حَنـَّة الـْمـَزْوَرات : يتعلق الأمر – في هذه العادة – بالعوانس اللواتي فاتهن قطار الزواج، فيذهبن إلى ضريح لالة «عْويشْ» المجذوبة قرب حومة عرصة الملاك ؛ يقضين النهار بضريحها، ويخضبن أياديهن بالحنَّاء التي جمعت من «المَزورات»، وهن العرائس اللواتي تزوَّجن حديثا، ولم يسبق لهن، ولا لأزواجهن أن تزوَّجوا قبل، ويعتقد العوانس بذلك أنهن سيتزوجن قريبا ؛ ومن العادات الضارة التي كانت تجرُّها عادة «حنَّة المَزورات»، اعتقاد العوانس بما يحصل لهن في هذه الاستعمال، وفي أمور أخرى يتجاوز بها أصحابها عتبة التـَّوحيد. ومنها خَتم المولد النـَّبوي بدار العانس، مع قراءة كتاب: دلائل الخيرات من طرف جماعة ضريح أبي العباس السَّبتي – رضي الله عنه -. ومنها – أيضا – أن «حنة المزورات» تُوضع في جلد الماعز، وتصنع من ذلك «سجادَة» يُصلَّى عليها داخل منزل العانس، إلى أن تتزوج …
تـَهْراسْ الـْكـَاسْ: عادة قديمة بداخل البيت المراكشي، يتم – من خلالها – الاحتفال بالطفل الذي كسر أول كأس في حياته؛ وفي هذه العادة تعتقد الأسر، أن عُودَه اِشتدَّ، مما يستدعي القيام بحفلة يحضرها الأقارب، والجيران، والأطفال …
خـْوَابي النـّْيال: وهي الرماد والماء، وغاسول «الكسي»، تمزج، وتخمر في «خابية» (إناء من الطين)، وتستعمل لغسل الألبسة، وخاصة البيضاء منها، وهي مما تحصل به جودة التصبين. وتجر هذه العادة من ورائها عادات أخرى على غير مُرادها؛ ومنها إذا تم – في زعمهم – غسل ثياب صاحب الدار، ومات في يومه، أحتفظ بما تم غسله للكفن، أو يتصدق بذلك قبل خروج جنازته … ومنها – أيضا – أن ماء «خْوابي النيال» لا يستعمل للنظافة يوم الثلاثاء سابع محرم من السنة القمرية، ولا في آخر يوم من شهر ذي الحجة دون تعليل لذلك عند القوم.


الكاتب : إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 17/03/2025