أبو شعيب الدكالي والمختار السوسي
تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.
ومن هؤلاء العلماء الذين كانوا يُلقون دروسهم، ومواعظم بالأضرحة والزَّوايا على تعدد أنساب أصحابها: الشيخ العلامة المختار السوسي – رحمه الله -، الذي كان يحاضر في ضريح عبد العزيز التباع – رضي الله عنه -، وبالزاوية الدرقاوية التي كانت مقرا لسكناه يومئذ.
ولعل هذه الحملات الدينية الدَّعوية قد استفاد منها شاعر الملحون – وكان هو الوسيط الخاص بين العلماء والعوام – ولا سيما في دروس بين العشائين التي أعطت ثمارها الثقافية، وأينعت زهورها الأدبية بوسط الجماعة الشعبية العريضة في عهود زمانية مختلفة؛ أهّلت شاعر الملحون، ليكون رجل زمانه، ولينهل من ثقافة غيره.
نعم، ففي «ديوان الملحون» روائع من الزَّجل المغربي الأصيل، ناقشت الكثير من الأمور الدينية، كقصيدة «اللاَّيم» لشاعر مراكش، المدني التركماني – رحمه الله -، طرح فيها مسألة «الإيمان والإسلام»، عارضه شاعر فاس أحمد الغرابلي بقصيدة «الدَّاعي» التي انتشرت انتشار النار في الهشيم. فالأول يَرى أن الشهادة تكفي المسلم، ولا يُكفَّر صاحبُها، بينما الثاني يَرى رأيا آخر، وهو أن الشهادة بدون ما يتبعها من فروض ولـوازم، لا تكفي صاحبها. والمتأمل في ديوان الملحون، يَرى أن الشعراء الزَّجَّالين، حاولوا تبسيط معارف دينية للعوام في شؤون العبادات، وفي التاريخ، والحضارة، والوطنية، وغيرها.
ومن الناحية الأسلوبية ذكر الباحث الأستاذ عبد الحكيم أبو اللوز، أن حضور العامة من التجار، والحرفيين في مجالس العلم ، كان من الأسباب التي دفعت العلماء إلى الاقتصار في دروسهم، ومواعظهم على النصوص المألوفة لدى هذا الصنف من الحضور، فابتعدوا في الخطاب الديني عن النصوص «الكلاسيكية» المألوفة ، وأساليب المعرفة العالية، والأعراف البلاغية (السجع، وزن الجمل، استعمال الحِكَم المأثورة)، وغيرها من التقاليد التي كانت محمودة في الأوساط العلمية، وغير المتضمنة في التَّصور الشعبي للطريقة الصحيحة التي يجب أن تسير بها ، مثل الأنشطة ، لذلك كله، لم يكن لأسلوب التعليم أي دور في إحداث تغييرات جوهرية في الفهم السائد عن الطريقة التي يجب أن تبلغ بها هذه المعرفة الثمينة. فلم تتمكن النخب السلفية المحلية من التعبير عن توجهاتها الحقيقية، سوى بتأسيس مجموعة من المدارس الحرَّة التي لعبت دورا في نشر مبادئ السلفية من خلال تدريس اللغة العربية وتعليم الدِّين الإسلامي.
ومن أشهرها المدرسة التي أسَّسها المختار السوسي بحي الرميلة، سنة : 1929 ، ومنها مدرسة محمد الخامس بروض العروس ؛ وهذه المدرسة العتيقة، التحقت بها مديرا إلى غاية سنة 1998، وقد وقفت على بعض الوثائق الهامة في سجل المدرسة، تتحدث عن الجهود المثمرة التي قام بها الراحل المختار السوسي – رحمه الله – وهو – يومئذ – على رأس الجماعة التي كلَّفها باشا المدينة التهامي الكلاوي والذي شارك بمبلغ هام في جمع أموال بنائها، إلى جانب نخبة أثيرة من أعيان مراكش ووجهائها، وقام بوضع الحجر الأساس المغفور له محمد الخامس – طيب الله ثراه – صحبة ولي عهده الحسن الثاني – رحمه الله – في أواخر الأربعينيات ؛ وتخليدا للمختار السوسي بنيت قاعة فاخرة في هذه المؤسسة للأنشطة التربوية، والفنية، والاجتماعية تحمل اسمه، كانت بمثابة رئة للمؤسَّسة وللعاملين بها، وإلى اليوم تشهد مجموعة من الأنشطة التربوية، والفنية، والاجتماعية إلى ما شاء الله تعالى.