على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -02-

محاورة على ضفاف العمر

 

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

 

n يبدو أن هذه السيرة لا تتوقف عند حدود استذكار تطور المشروع العلمي و المعرفي للشيخ عبد الرحمن الملحوني، بل أيضا تتوغل في تفاصيل الطفولة و الشباب..

p عبد الرحمن الملحوني: نعم، فقد تمكَّنت في هذا الحصاد العلمي الثقافي من تتبع محطات أزمنته في كل فترة من فترات الحياة، دَقـَقـْتُ ما أمكن البوح به في أحداث الطفولة والشباب، وفي الكهولة، والشيخوخة مما سجلته السنون في مخزون الذاكرة الغضة السمعية، والبصرية إلى حين؛ بل تذكَّرت في هذه الجولة الفسيحة من العمر مجموعة ً من الأماكن، والمواقع، والأندية، وتمعنت – أيضا- فيما عرضته من صُور، ومشاهد من حياتي مما يفيد القارئ الكريم من الجانب العلمي على وجه الخصوص، وشعرت في نهاية الأمر، – من خلال ما أقدّم – أن هناك مَشروعين هامَّين في هذه الحياة ظلاَّ يُرافقاني ، بل لازماني الطموحُ في إخراجهما إلى حيّز الوجود وهما :
– أولا : مشروع قضايا محو الأمية وتعليم الكبار، ابتداء من سنة : 1956، حيث شاركت فيه شابا يافعا في الحملة الوطنية التي دشَّنها صاحبُ الجلالة الملك محمد الخامس – رحمه الله – تحت شعار : (خرجنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر) ، وتخلَّله في السبعينات مشروع ما جاء به المنشور رقم 268، الصادر عن الوزارة الأولى، بتاريخ : 13 صفر ، عام 1398، موافق 23 يناير 1978، الذي يقضي بتركيز القضايا المتعلقة بمحو الأمية بوزارة الصناعة التقليدية ، والشؤون الاجتماعية، وفي هذه الفترة التاريخية بالذات التحقت بهذه الوزارة مسؤولا عن هذا الملف بالمغرب، وخارج الوَطن، ابتداء من سنة 1978، وخُضتُ غمار هذه الحملة الثانية تحت شعار :
“لا نَرضَى وواحد من أمتنا جاهِل”، من المنطوق السامي لصاحب الجلالة الحسن الثاني – رحمه الله-، وجاءت الحملة الثالثة في هذا السياق أيضا التي قادها الملك محمد السادس – نصره الله – بمناسبة خطاب ثورة الملك والشعب الذكرى 47، المؤرخة بتاريخ : 20 غشت سنة 2000 ؛ وبموجب هذا الخطاب السامي فُتِحت المساجد في رُبوع المملكة تستقبل أفواجا ممن فاتهم سِنَّ التَّمدرس ذكورا وإناثا، فالتحقت أيضا بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدعوة منها منسقا وطنيا وأحد المشرفين الذين يؤطرون هذه التجربة الرائدة التي تدخل في عناية الملوك العلويين الثلاثة في سبيل محو الأمية ودورهم في القضاء على مخلفاتها والرفع من مكانة المواطن المغربي، ليؤدي دوره الكبير في بناء صرح مجتمعه، مُشاركا في تنميته ؛ وهذه الحملة – هي الأخرى – اتَّخذت شعارا آخر من خطاب صاحب الجلالة محمد السادس – نصره الله الذي يرى أن الأمي هو الذي لا يعرف إلا لغة “الأمّ” مفصولا عن محيطه ومجتمعه بالمرة .
– ثانيا: مَشروع العناية بالثقافة الشعبية المغربية الأصيلة، وعلى رأسها التنقيب والبحث في جواهر ديوان الملحون وما أبدعه فرسان الزجل بالمغرب. وقد أخذ مني هذا المشروع بالغ العناية ووافر الرعاية ابتداء من سنة 1964، إلى اليوم، وفي هذا المشروع قدمت للقارئ الكريم من خلاله نتائج حصاد يَراع هام، من مختلف معارف الثقافة الشعبية وهو عبارة عن مجموعة من الإصدارات، والمحاضرات الجامعية وعدد غير قليل من المقالات الصحفية، ومنجزات خمسين سنة من المحافظة على فن الملحون لجمعية الشيخ الجيلالي امثيرد بمراكش باعتباري رئيسا لها منذ خمسين سنة.

n نلاحظ أن هذه السيرة بنيت من خلال أسلوب محاورة تجري بينك و بين سائل هو طالب مفترض يتعقب فضوله تفاصيل سيرتكم، ما هي خلفيات هذا الاختيار؟

p عبد الرحمن الملحوني: صحيح، اِعتَمدت في تقديم هاته المحطَّات العلمية الثقافية – ولو في عجالة سريعة، وجَولة عابرة، من تاريخ فُصولها- على تِقنية التجريد في أسلوب “الحوار” انطلاقا من افتراض وجود شخص يُحاورني، مستطلعا – بدوره- ما بقي محفوظا في الذاكرة من ذكريات الماضي الجميل، وقد رَافقني فيها من سنة الميلاد: 1938، إلى السنة التي أنهيت فيها هذا الإنجاز العلمي الدَّؤوب. وسوف ينقب الطالب الفتى المُحاورُ في هاته الجولة الفسيحة من جولات الزمان الجميل ؛ نعم، سوف يُنقب عمَّا ادَّخرته هذه السنوات من جليل الأعمال والمنجزات المفيدة، لأضع تحت أنظار القراء الكرام، مجموعة من المحطات العلمية عن طريق مجموعة من الأسئلة يلقيها مُحاوري الطالب الفتى حول الوقوف على أجوبتها، وآفاقها، وهي تُقدم زخما هائلا من الذكريات الجميلة، ومعها صفحات ذهبية، سوف يُفيد محتواها القارئ الكريم، مُستطلعا الحوار بقولي: قال الطالب الفـتىَ، لأستاذه الشَّيخ ، تبعا لما تُمليه ظروف كل محطة من محطات العمر، وما تتطلبه من الأسئلة المطروحة، وفي نطاق هذا التطور الذي وضعته للحديث عن هذه المذكرات، استشرت الدكتور عبد الهادي التازي، خوفا مما يجري على لسان محاوي من تبجيل وتقدير لشخصي فكان موقفه يرتكز على عدم خجل المبدع من أي حرج في أن يتحدث عن نفسه، وعن إبداعه، فأحرى أن يتحدث عن غيره، لذا فإني لـَسعيد بإهداء هذا العمل العلمي الثقافي، إلى من نفخ من رُوحِه وهو راقد في غطيطه بين الأوراق، ولفائف الكناشات، إنها جذوة حية من الذكريات، كانت وبحق تنتظر من يُزيل الرَّماد الميت عنها من الخُلَّص الأوفياء من رفقاء العمر، أولئك الذين يُحْمَدُون بما يَفعلون، ويُنْجزون، هُم إخوة أعزَّاء، كرماء، تناولوا بالبحث والتنقيب، والتحليل، ما كنتُ أنجزتُه بالأمس القريب من إنجازات، وما حبَّرته – يومئذ– من أدبيات حول “ديوان الملحون”، -على وجه الخصوص- ، وأنا اليوم مازلت حيَّا أُرزَق، ينثرون عليَّ – من حين لحين – باقة من ورود تقديرهم، ومحبَّتهم، بل كانوا –دائما- يُشيرون عليَّ بتوثيق هاته المحطات العلمية المفيدة لأجيال الغد، وعلى حد قول القائل : “غَرسُوا فأكلنا، ونغرسُ فيأكلُون”.

 


الكاتب : إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 03/03/2025