على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن 20 .. الوهابية بجامعة ابن يوسف

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

n الإصلاح الاجتماعي كان حاضرا لدى الكثير من علماء جامعة ابن يوسف في النصف الأول من القرن العشرين، ما هي مجالات نشر دعوتهم وتصريف إشعاعهم؟ هل اكتفوا بفضاء الجامعة أم وظفوا فضاءات اجتماعية أخرى؟
p من بين العديد من شيوخ الجامعة اليوسفية، ممن قد تمت الإشارة إليهم، ومن غيرهم من أولئك الذين كان لهم هدف من دروسهم، ومواعظهم في لقاءات الجامعة الشعبية العريضة لكن هناك أسماء يجب استثناؤها من الصورة التي وضعت للنشاط الدَّعوي الدِّيني في مراكش ما قبل السَّبعينات. إذ لا يغيب – أبدا – عن مؤرخ مراكش الذي يُواكب كلَّ صغيرة وكبيرة من إنجازاتها العمرانية، والحضارية، والثقافية، والفنية، والاجتماعية … والوقوف على القائمين بشؤونها، وقضاياها، وهم كثر، في كل مرحلة من مراحل تاريخها العتيد، ممَّن كانت لَهم فيها أهداف نبيلة وواعدة، تتصل اتصالا وثيقا بمحيطهم، وحاجات بني وطنهم، فلم يغادروا هذه الحياة، إلا وقد حققوا ما عليهم من واجبات، وتضحيات جسام … وهناك من عاش من هؤلاء العلماء إلَى جانب زملائهم لا يتركون أثرا يُذكرون به، وليس لهم ممَّا عاشوا ، إلاَّ اللغو..
وأذكر هنا داعية من طراز فريد، سجَّل له التاريخ بعض المبادرات العلمية الطيبة في حقل الدعوة، وهو سيدي أحمد بن محمد أكرام – رحمه الله – (1956-1884)، وثانيهما مصلح اجتماعي، اشتهر بإسهامه النظري الموفق في محاربة البدَع، ونبذ التقليد، وهو سيدي محمد بن عبد الله المعروف ب «ابن الموقت» – رحمه الله – (1949/1894) ؛ و يمكن أيضا، ذكر عدة أسماء اشتهرت بجهودها لإصلاح نظام التعليم في ابن يوسف، ومن بينها الرؤساء الخمسة للجامعة: مولاي امبارك العلوي، محمد بن عثمان، عبد القادر المسفيوي، محمد بلهاشمي المسيوي، الرحالي الفاروق، بالإضافة إلى أسماء شيوخ اشتهروا بدروسهم في الجامعة، ومنهم سيدي المدني بن الحسنيي، العلامة محمد بلحسن الدباغ، عبد السلام بن المعطي السرغيني، مولاي أحمد العلوي، بوشعيب الشاوي …
كان الشَّيخ محمد أكرام – رحمه الله – يخصص بعض الوقت للطبقات الشعبية، فقد كان له درس أسبوعي في صحيح مسلم، والتفسير، وسرعان ما استهوته هذه الطبقة التي غدت تتقاطر على مجالسه، وأصبح له جمهور كبير يلازم دروسه التي تقام بمسجد بن يوسف، ومسجد حارة الصورة، ومسجد المواسين، وإلى جانب نشاطه العلمي في المدرسة الحرة التي أسسها بسيدي بوحربة، وتدريسه بجامع ابن يوسف، كان يحضر لقاءات أخرى في دور القائمين بالأنشطة الوطنية، والأدبية ، والاجتماعية.
نعم، فلقد اكتسب هذه الشهرة العريضة، نظرا لمواقفه الشديدة والصارمة تجاه محاربة البدَع الضالة، وتنديده البالغ بالطرقيين ؛ فكانت دروسه دعوة سلفيه إصلاحية، تروم تصفية العقيدة من شوائب البدع والضلالات والخرافات، متأثرا في ذلك بأفكار ابن تيمية، ومناصرا للوهابية التي تأثر بها أثناء المرتين اللتين أدَّى فيهما فريضة الحج ؛ وممَّا يُروَى عنه، أنَّه كثيرا ما كان يتراشق مع علماء ابن يوسف بالكلمات فوق المنابر، خصوصا مع العلامة محمد بن الحسن الدباغ – رحمه الله – ومن مواقفه الإصلاحية أنَّه عمد معَ ثلة من أتباعه إلى شجرة كانت بحارة باب دكالة، فقطعها بعد أن كانت النساء يعقدن بها التمائم والحروز، وغير ذلك مما تعتقد النساء أنه يسعف في درء الأذى وجلب الخير !!.
وقد تولى أكرام الخطابة بمسجد بريمة، وتخـلـَّى عنها في أواخر حياته تورعا كما عرض عليه تـَولِّي القضاء فرفض، ولما أسس النظام بجامع ابن يوسف عام : 1935 رفض التدريس به اعتقادا منه بأن الصندوق الذي يؤدي منه رواتب العلماء مصدره حرام، ولذلك كان يسميه «الصندوق الأسود» ، مع أن حالته المادية – يومها – كانت ضيقة، بحيث لم يكن له من السَّعة ما يجعله يرفض مثل هذه العروض.
n وماذا عن الرجل الثاني، ابن الموقت؟ يبدو، حسب ما كتب عنه، أنه كان بسيرة غريبة ملأتها التقلبات الفكرية، مثلما أنه كان غزير العطاء، ربما أنه الكاتب الأكثر تأليفا في المغرب..
p عبد الله ابن الموقت – رحمه الله-، اشتهر بدعوته الصريحة إلى نبذ التقليد، وإصلاح الممارسات الدينية بالرجوع بها إلى صِيغها الأولى، مما أكسبه شهرة عريضة في الثلاثينيات من هذا القرن. ويقول عنه الباحث الأستاذ عبد الحكيم أبو اللوز ما نصُّه: كان ابن الموقت قد نشأ في بيئة علمية، من أسرة صوفية بزاوية الحضر بمراكش، وكان والده من كبار علماء التوقيت ممن اشتهروا بالتصوف وقد قضى فترة طويلة من عمره بمسجد ابن يوسف، آخذا على علمائها، وقد اندمج في بداية شبابه في الطريقة الفتحية، مندمجا فيها اندماجا كاملا، واضعا مؤلفا خاصا في مناقب شيخها أحمد الباني سماه: «معرج المنى والأماني، في مناقب القطب الرَّباني، شخينا فتح الله أحمد الباني «.
كما ألَّف رسالته المسماة: «إرشاد أهل السَّعادة لسلوك كمال السَّادة» ؛ دافع فيها عن وجوب اتخاذ شيخ حي، يهتدي به المريد إلى طريق الحق والخير، لكن انفتاح ابن الموقت على كتابات معاصريه من الشيوخ، كمحمد عبده، والعلامة رشيد رضا، كان سببا مباشرا في تغيير توجهه الديني، فقد نمَّى حِسُّه النقدي، وأخـذ يقوم بنقد شديد شامل للأوضاع من حوله، كان من اهتماماته الجديدة انتقاد الطريقة الفتحية التي كان قد انسحب منها، يُهاجم كل الطرق والزَّوايا، والعديد من الممارسات الدينية التي أصبح يَراها بدعَة لَيستْ من الدّين في شيء .


الكاتب : إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 24/03/2025