على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -22-

 

القصايدي…

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

سؤال: في الحلقات السابقة، حاونا أن نغوص في ما احتفظت به ذاكرتك من ممارسات ثقافية سائدة في صفوف الفئات الشعبية بحومات مراكش، و كذا مرجعيات نخبة جامعة ابن يوسف و أساليبها في ممارسة نشاطها العلمي، و فضاءات تصريف إشعاعها الفكري. و سنحاول في الحلقات المقبلة، أن نركز أكثر على نشاطك المرتبط بتوثيق الذاكرة الشعبية، وكذا تدوين و دراسة متون أدب الملحون. وهنا تحضر ملاحظة لا يمكننا القفز عليها، وتنصب على لقب عائلتكم « الملحوني». هل كان ذلك بمحض الصدفة، أم لارتباط العائلة بهذا الصنف من القول الأدبي و الفني؟
الشيخ عبد الرحمن الملحوني: يُذكر في هذا السياق أن لقب العائلة ب «الملحوني» قد اختاره والدي – رحمه الله – بنفسه وأدلى به شخصيا لمصالح الحالة المدنية بمراكش. وكما هو واضح، فإن هذا اللقب العائلي، قد يُحيل على الانتساب إلى حظيرة أهل الملحون، هذا الانتساب الذي أكده الوالد حين صرَّح به لضابط الحالة المدنية الذي استفسره – كما كان عليه الحال قديما – عن مهنته، أو عن إحدى هوايته الشخصية. فمهنته «الخرازة» – يومئذ – وهوايته قصايدي أي ينشئ «قصائد الملحون» فاستبدلت كلمة «قصايدي» بكلمة «الملحوني» نسبة إلى فنّ الملحون الذي كان يتعاطاه ويمارسه، بعد تخليه – لظروف- عن مهنته التي كانت تعرف مجدا في الأوساط الشعبية قبل عهد الحماية وبعده، إلى أن زاحمها الحذاء العصري (مستجدات عهد الحماية).
وفي هذا السياق يرجح الأستاذ محمد بوعابد هذا الاختيار «لقب الملحوني» لكون بعض الأسر التقليدية – قبل عهد الاستقلال – كانت لا تُعرَف في الأوساط الشعبية بمراكش إلا بالانتساب إلى الآباء، أو إلى المِهَن التقليدية التي كان يحترفها المراكشيون، كأن نخاطب الشخص بحرفة أبيه، أو عائلته. فيقال في داخل الحومة: دار فلان النجار، أو الحدَّاد، أو لـَمْضَامِي.. أو الدَّرَّاز، أو لـَمْصَايْطِي، وهلم جرًّا.
أو يقال: – أيضا – «ابن فلان» وهذا ما انطبق على شاعرنا، إذ كان مشهورا بين أصدقائه وأهل مدينته باسم: «ابن عمر»، وفي هذا يرى الأستاذ محمد بوعابد في التـَّرجمة التي قدَّمها لجده؛ أن الأهمَّ في هذا الانتساب، هو ما كان يفصح عن ارتباط الشاعر المترجم له بفن الملحون لدرجة اعتباره «حرفة» واتّخاذه نسبا له ولعائلته فيما بعد.
سؤال: إذن كان لقب الملحوني تأكيدا لانتساب والدكم رحمه إلى هذا الفن، و إصراره على أن يظل ممتزجا بهويته الإدارية و المدنية..
الشيخ عبد الرحمن الحوني: نعم، فلقد عُرف والدي باسم:»محمد بن عمر» وبه اشتهر، ووقع قصائده على عادة أهل الملحون، إما تصريحا أو تلميحا، لقد كان يرمز إلى اسمه في آخر قصائده بقوله: «وَاسْمِي بَمَنْ». وكلمة «بَمَنْ» تساوي في حساب الجُمل: «92» وهو عدد حروف اسمه «محمَّد». ومرَّة يقول في آخر قصائده: واسمي «زُوجْ وْتَسْعْينْ» وتنطقها العامة «جُوجْ». ويستعمل شاعرنا كلمة أخرى في التـَّصريح عن اسمه، كقوله: «مَلْكَابْ»، وتساوي حروفها «الميم، واللام، والكاف، والباء» عدد: «92» بحساب الجُمَل كذلك. كما اشتهر في حومة درب «ضباشي» من حومات مراكش ب « ولد الخضَّار»، وابن «الهاشمي».
وحكى لي – رحمه الله – أن أباه كان قد اختار له اسم «الهاشمي» لولا أن رأى ما رآه مناما في ليلة تسميته، فاستيقظ مفزوعا منها وغيَّر رأيه صباحا. فقيل له: لماذا استبدلت اسم «الهاشمي» باسم «محمَّد»؟ فقال: رأيت الصَّبي ملفوفا في خرقة بيضاء وحوله جماعة من الناس يعزفون على بعض الآلات الإيقاعية. فقال لي أحدهم حين أقبلت عليهم: سمّ ولدنا ب «محمَّد» فهو خيرُ الأسماء فقلت: والهاشمي، جد رسول الله! فلماذا؟ فقال على الفور: هذا ولدنا وقد ينتسب إلينا وقد سميناه «محمَّد» وانتهى الأمر! ففي الصباح قصَّ ما شاهده مناما على أحد الأصدقاء، فقال: «وبه خير» والله يتولى السَّرائر، فأنت مأمور. وحكى لي – مرة أخرى – أنه كان يجمع ما ينثر أصدقاء أبيه من أخبار في مجالس الجيران عن والده وجده، وذات يوم أخبرني أحدُ أصدقاء الحومة بما يلي: «اشتهر أبوك في الحَومة ب عمر الخضَّار، وكان له ولع بحضور حلقات دروس العلماء والإنصات إلى تلاوة القرآن، بل كان يُحسن تحبيرَ بعض الدّعوات، والتَّوسلات بصوت عذب جميل. فهو لم يحترف مهنة بيع «الخضر»، إلا بعد عسر ظروف الحياة وقسواتها على الصَّناع التقليديين، وشجعه على ذلك بعضُ ساكنة الحي، إنه رجل فاضل كان يُساعده في الدكان بالحي، وهو الذي توسط عند عائلة زوجتك، التي كان لها صيت محترم في حومة (باب دكالة) قبل رحيلها من هاته الحَومة التي عرفت مجدا من أمجاد مراكش.»
ويوما سمعني والدي الحاج محمد بن عمر الملحوني أجوِّد القرءان وأحبره بصوت عذب جميل. فقال لي: – رحمه الله -: هذا من موروث العائلة، فتحقق لدي ما كان يرويه عن جدي – رحمه الله – وما اشتهر به هو نفسه – بين أصدقائه – من إنشاد جيّد لقصائد الملحون.


الكاتب : n إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 26/03/2025