تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.
p من الآثار الحية لوالدكم الشاعر محمد بن عمر الملحوني رحمه لله، جمعة الشيخ الجيلالي المتيرد، التي منذ تأسيسها سنة 1970، لم تتوقف إلى اليوم عن تحقيق أهدافها في حفظ الذاكرة الشعبية، و توثيق التراث الشفهي، و صيانة أدب الملحون. قبل الحديث عن ظروف تأسيس هذه الجمعية، نريد أن نعرج أولا على هذه الشخصية التي حملت اسمها، الجيلالي امثيرد؟
pp الشيخ عبد الرحمن الملحوني: سطع نجم الشيخ الجيلالي امثيرد، في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد لله – الذي عرفت مراكش فيه تطورا وازدهارا في ميادين شتَّى ، حتــى قيل: إنه المؤسس الثاني للمدينة ؛ وفي هذه الأجواء، نشأ شاعرنا الموهوب، الذي لم تكن مواهبه معزولة عن بيئتِه ومحيطه الاجتماعي، والثقافي، والفني، بل أخذ هذه المواهب مما كانت تمليه ظروف حياته في مختلف مناحيها عبر مَراحلها الأساسية : طفولة ، وشبابا، كهولة وشيخوخة، فنراه يعيش – من خلال شعره – تجربة كل مرحلة على حِدَة، وهذا مما جعل معارفه وتجاربه تعكس روح العصر الذي انتمى إليه، وتفاعل مع مظاهره على تعدد المناحي والمشارب التي ميَّزت شخصيته بشيء من النبوغ والإبداع.
نعم، فانطلاقا من هذه الخصائص، يمكن القول بأن سيرته الذاتية، هي في الحقيقة تعد تشكيلا لمجموعة من المظاهر الفنية والثقافية، روى بعضها عددٌ من الباحثين في سيرة هذا الرجل العظيم، وليس بالمتعاظم، إنها عظمة أفرزتها مدينة ذات الشأن الكبير، في عهد السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد لله – قدس لله روحه – ؛ ففي عهده سطع نجم شاعرنا الذي استفاد من ازدهار مراكش في هاته الفترة التاريخية بالذات، وعاش أحداثا متنامية في زَمن ثلاثة ملوك هم: محمد بن عبد الله، والمولى عبد الرحمن، والمولى الحسَن الأول؛ إذن فهو من أكابر شعراء الملحون المشهورين ، ممن ذاع صَيتُهم في جميع الأنحاء، ومن الطبقة العليا في قرض الزجل المغربي الملحون.
p هل هو من مراكش؟
pp الشيخ عبد الرحمن الملحوني: في هذا السياق، ذكر الراحل الأستاذ محمد الفاسي في معلمته: أن أصل الشيخ الجيلالي امثيرد من «تافيلات» من قصور الغرفة من «امسيفي». ولُد ونشأ بمراكش، ومات مسنا في أواسط سلطنة مولاي عبد الرحمن – رحمه الله -، ودفن بمقبرة سيدي علي بلقاسم، بمكان يسمى «سجينَة» بجوار مسجد «الكتبيين» تحت منارته. ويشير – في هذا الصدد – الأستاذ محمد الفاسي أن السلطان المولـَى الحسن الاول – رحمه لله – ، كان قد بحث في قبر الشيخ الجيلالي امثيرد، فأرشد إلى مكانه، وعزم على بناء ضريح عليه، إلا أن خروجه لبعض «الحركات» حال دون ذلك ؛ وعن محل بيعه للخضر، ذكروا أنه كان بحومة «رَوض العروس» قرب حَومة «باب دكالة»، التي ازداد فيها – رحمه لله – .
p يظهر أن للشيخ الجيلالي المثيرد جمهور من الملوك و السلاطيين أيضا..
pp الشيخ عبد الرحمن الملحوني: أذكر في هذا الصدد أن السلطان مولاي عبد الحفيظ، كان يحب الشيخ الجيلالي امثيرد ويقدر شاعريته، ومرة سمع – في مجلسه – أحد المنشدين يُنشد إحدى روائعه في فن «العشاقي» فقال : من هو؟ فقيل له : إنه الشيخ الجيلالي امثيرد، فقال : رحمه لله – : «بَلْ هُو مْثـَرَّد» أي «عامَرْ بالثريد» …
ويذكر الأستاذ محمد الفاسي – في المعلمة – أن شاعرنا نظم قصائد عديدة، كانت كلها جيدة، تمتاز بجزالة اللفظ، وصحة المعنى، والتفلسف في «التغزل». وفي كتاب «القصيدة» للدكتور عباس الجراري – ضمن تراجم شعراء الملحون – يُشير إلى أن الشيخ الجيلالي امثيرد، كانتْ لـَه جملة «أولويات»، سبق إليها في تطوير القصيدة الزجلية «شكلا ومضمونا» ؛ فهو أول الزجَّالين نظما في قصائد «الخمريات»، وأول من اتخذ «الشمعة» في احتراقها، وذوبانها موضوعا للكشف عمَّا يعانيه المحب في مقارنة بين حاله وحالها !! وهو – أيضا – صاحب فكرة «الحراز» التي اقتبسها من فن «الكدية» ، فالمكدي في حِيَله، يشبه غريم الحراز – أيضا- في كثير من الصفات التي يأتي بها لاستغفال زوج عاشقته ؛ كما كانت لشاعرنا أسبقية – أيضا- في قصائد «الضيف»، و»القاضي» و «الخصام» و»الخلخال» و»الفصادة»، وهو صاحبُ فنّ «السَّرابة» حيث كان أول من اتخذها في التمهيد للقصيدة .
p ينسب له أيضا التجديد في الإيقاع و الأوزان ..
pp الشيخ عبد الرحمن الملحوني: من إبداعاته – في وقته -: «وزن للبحر الـَمْتَنِّي» فقد وضع في قصيدة «الساقي» وزنا للبحر «الـَمْثَنِي» لم يكن معروفا من قبل، صَدره أطول من عجزه، وكما يقال : «الفراش» أطول من «الغطا».
وهو – أيضا – صاحب بحر «السَّوسي» ، واستعمال «الحوار» ، وهذا اللون من الشعر بدأ به الشاعر الحمري في قصيدته «الربيعية»، ولكن امثيرد طوره وجعله يمتد في كل القصائد، وساعده على ذلك نظمه في موضوعات تستدعي تبادل الخطاب، أمثال: «القاضي، والحـــراز، والخصــام …»
وإذا استطاع الباحثون في ديوان الملحون، أن يتمكَّنوا مما سجله الأوائل، الماهدون، والأواخر المعاصرون، من الإبداعات الخالدات بخلود أصحابها، وقارنوها بديوان امثيرد، فإن هؤلاء سيلاحظون ، أن امثيرد – وحده- قد بنى دارا جميلة بشعره، وجاء التهامي المدغري بروائعه فزوق هذه الدار وزخرفها وأضاف إليها الكثير من صناعة شاعر الفصحى؛ وكما يقال: إن السي التهامي سلطان العاشقين، والشيخ الجيلالي أحرش منه؟، وأميل إلى العقل في وجدانياته. واستمرارا وتقديرا لمحبة الملوك العلويين لهذا الفن المغربي الأصيل، فقد قدم الراحل الحسن الثاني – رحمه لله – كتاب: (معلمة الملحون)، وقدَّم حَفيده سيدي محمد السادس – نصره لله – «موسوعة الملحون» تحت إشراف الأكاديمية المغربية؛ وهذا مما يؤكد العناية بهذا الفن المغربي الأصيل في حظيرة ملوك الدولة العلوية الشريفة.