على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -03-

 

الطفولة.. كل شيء يبدأ من درب الجامع

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

n في سيرتكم يستطلع محاوركم المفترض، عن المنابع الأولى في طفولتكم و عن دورها في توجيه اهتماماتكم البحثية و المعرفية، و عن أخلاقيات ممارساتكم في حفظ الذاكرة و تعقب الأثر و تعميق الحفر في متون الملحون. ما هو الهاجس الذي أرجعكم إلى زمن البدايات الأولى؟ هل هو توثيق الرؤية التربوية للجيل الذي رعاك صغيرا و القيم التي وجهته في ذلك؟ أم هو تهمم خاص بالمكان، بمراكش الذاكرة، مراكش التي لم تعد الآن بعد ان صارت معالمها حكايات تروى؟

p في هذه المحاورة مع الذات، أخاطب الإنسانَ مِثْلِي متخففا من جلباب الواعِظ، أذكر نفسي، بنفسي، وهي مَرحلة من مَراحل «التَّصالحُ معَ الذات»، وما أحوجَ الإنسان إليها من حين لحين. ولذا أقول: أيها الإنسانُ الكائنُ الحيّ النَّامِي، ألستَ أنتَ صاحبُ هاتِه الصفات؟ بَلْ أنتَ ذلك الجَوهَر السَّامِي، الْمُجرَّد عن المادَّة على هذا الهَيكل من المحل الأرفع، والمكان الأمتع، ولولاه لما كان لهذه الهيئة الإنسانية مالَها من التـَّمييز عن الموجودات كافة!! فأنت – أيُّها الإنسان الضَّالُ عن هَديه – اِبْنُ السَّماء، لا اِبْنُ هذه الأرض، وأصلك – كما تعلم – من العلا. لا من الحضيض الأسفل، وما وجودك على سطح هذه الكرة الأرضية، إلا وجود ضيف عابر، وعن قريب يرحَل، ويَرجع إلَى البسيطة التي فيها نشأ وترعرع، ومن تـُربتها نَبتَ ونما، كما تنمو جميع الكائنات بقدر معلوم.
قد ادَّعيت – أيها الإنسان – التـَّملُّك، وزعمت أنـَّك كلٌّ شيء، في هذا الوجود، وأنت لا شيء تـَذْرُوكَ الرياح، لأنك تحرجك البعوضة، ويقلقلك الوَهم، ويحرمك المنام البَرغوث!
أهكذا يكون شأن من يخال أنـَّه على كلِّ شيء قدير؟ إن هذا الأمْرُ نكير!! ألستَ أنت الذي تأكل، وتشرب، وتمرح، وتلعب …
ألم تَعلم أنـَّك في هذا الوُجود لاشيء، إذا كنت فيه لا شيء، لم تترك أثرا يُذكر لك في الحياة، واعلَم أنـَّك الجوهرة الثمينة بعلمك ومنجزاتك لأخيك الإنسان، أنت العِملاق الشَّامخ بتفكيرك، والطَّود العظيم في علياء إنسانيتك وجوهرك!! أنت خليفة الله في خلقه، فكيف لا تعملُ في دُنياك ما يُؤكّد خلافتك فوق هذه البسيطة؟ أنت كما أنت، وإلى أن يَرث الله الأرض ومن عليها.
ما هذا الكبرياء الذي تَلبسه؟ وما تلك العظمة التي تتقمًّصها؟ فعلى من تتكبَّر؟ وعلَى مَن تتعاظـَم؟ «الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنـَّا لنهتدي لـَوْلا أنْ هَدَانَا اللهُ»؛ هدانا للتواضع وخدمة عباده، حتى نستحق خلافته فوق هذه الأرض المعطاء؛

n تعود في مضمار حديثك عن الطفولة، إلى سؤال القدوة وتأثيره الفعال في صنع مسارنا في الحياة. إنه هاجس واضح على ما يبدو في هذا المقطع من السيرة..

 

p نعم، ففي حياتنا تمَّ الاهتداء نحن جيل الحرب العالمية الثانية بعدد غير قليل من العلماء، والأدباء، والمشايخ ممَّن خـَلـَّدُوا أسماءَهم، وطبعوا المغرب بالطابَع الذي لا تـَبْلـَى محاسنُه، إلا أنـَّهم لم يَنالـُوا حظَّهم من التـَّقدير والاحترام ومن التعريف والإشهار؛ والمغرب – يومئد- زاخر بعطاءاته وتنوُّعاته في كل شيء، وهو اليوم في أشدِّ الحاجة إلى البحث من أجل إحياء تراثه وتنوُّعاته والمحافظة عليه بوسائل التدوين للأجيال القادمة حتى لا يضيع، عشنا في أزمات خانقة، اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، وتربوية، وعانى الآباء الشدائد والأهوال في إعدادنا لمستقبل زاهر في عهد ظلمات الحماية، كانت تحجبه عنَّا سياسة العدوّ الدخيل. نعم، ففي هذا الجو المظلم، والموبوء بالمفاسد، تنفسنا هواء فاسدا في ثقافتنا من صُنع الاستعمار الذي كان وبالا على جيل الحماية، إلا من نظر الله إلَيه، فوجد نفسَه محميا داخل عائلة واعية لها، ما لها من الحِصن والوقاية من وَيْلاتِ الاستعمار ومخبآته.

n إذن كيف يمكن أن نلخص هذه المرحلة من سيرتكم، مرحلة الطفولة أقصد ؟

p المحطة الأولى هي الميلاد و التنشئة. كان الميلاد بمراكش سنة 1938، بحومة (درب ضباشي)، درب الجامع بمنزل قرب ضريح الولية (للاسَتـِّي)، وكنا نسمع عن هذه الولية الصالحة الغريب من المرويات الشعبية (الأسطورية) التي ينسج فيها الخيال، ما يشاء ويجنح إلى خلق الكثير من الكرامات والمناقب، ومن ذلك ما كانت تحكيه أجيالُ الحومة، وبخاصَّة ساكنة (درب الجامع) الذي يوجد به قبرها العتيق، وفي هذا السياق ذكروا أن قدماء الحومة بنـَوْا لـَها ضريحا تقام فيه بعض المناسبات الدينية لنساء «الدرب» في عهود قديمة، ومع توالي الأيام تهدَّم هذا الضريح، فأقاموا لها ضريحا آخر، فلا تطول مُدَّته حتى يتهدَّم مرة ثانية وثالثة، واستمر الحال على توالي السنين، وتعاقب الأجيال، إلى أن حكى أحدهم يوما، أنـَّه رأى الولية (لَلاستـِّي) في المنام على هيأة حسنة، فاقترب منها حين سمعها تتلوُ شيئا من القرآن الكريم، فأخذته رعشة، ثم انحنَى بين رجليها متضرعا وقال لها : أنتِ (للاَّستِّي) ؟ فقالت: بلى! فقال لها : لِمَ لا تستقرين في مكانك حين يُبنى ضريحك من جديد ؟ فقالت له: قل لجيرانك من ساكنة الحومة يتركونني على حالي، فإني أكره البدعَة، إنني أعيش هناك، وبين جنبي عدد غير قليل من الأولياء، غرباء عن هذه المدينة. فاستيقظ الرجل، وحكى ما رآه، لساكنة (درب الجامع)، ومن يومئذ بقي قبرها، تتراكم عليه الأتربة والأزبال، حتى غابت معالمه، ولم يبق اليوم منه إلا ما يخبر عن هجر طويل. وعلى هذه الحالة، شاهدت هذا القبر، الذي كان بقرب من المنزل الذي أسكنه.
نعم ففي هذا الدرب نشأت وترعرعت، وأذكر أنني كنت أخاف من اللون الأزرق، لأن أمِّي كانت تلف كل شيء في البيت بهذا اللون، حتى الستائر بتعليمات من الجيران، يوم كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها ؛ وكنت أشتاق يومئذ وأنا طفل صغير، أن أشرب الشَّاي عند «رضيعة أمِّي» لأن في بيتهم سكرا، أما نحن فكنا نشرب الشاي بالتمر، وهذه الأيام كانت تسمى (أيام البُون) ؛ وقد اعتَنى أبي – رحمه الله – بتسجيل هذه الضائقة الاجتماعية التي عانَى من ويلاتها الحرفيون التقليديون من الطبقة الشعبية العريضة، في ديوانه وتـُذكرني الأبيات الآتية بهذا الموضوع :
نـَاسْ السَّـــــرْبيسْ يَـاهْـــــــــلِي صَبَّارَة
مَا تـْخــــــــــــافْ مَــــــــــــــــنْ دُوَّارَة
مـَا تْبالِي بَصْحَابْ الضُّوصْ وَالنـّْـواعَرْ
الـْـخَـــبْـــــــــــــــــــزْ بيـنـــتـْـهُـــم دَارْ
بـَاعُــــــــــــــــــــــوه بَالمـانْشِـنْـوَارْ …
ولعل هذه الصورة الزجلية، توضح ما كان يُعانيه الناس، يوم كانت المواد الأساسية عن طريق (بطاقة التموين)، والحصول عليها أمر صعب، في الأربعينات، وهو ما قد عبَّر عنه الشاعر بقوله: (مَاتْبالِي بَصْحَابْ الضُّوصْ وَالنـّْواعَرْ) (عيون المستعمر) ولما زالت المحنة، وانقشع الغَيْمُ، سجَّل ذلك الزجال بقوله:
لله الْحَـــــــــمْــدْ مَا بْـــــقـَى سَرْبيسْ *
زَالْ الهُولْ وَالتَّعكِيسْ * واللِّي حْبيسْ *
وَارْتـــاحُـــــــــو لـَمْقَدْمِينْ وَالـْبُولِيسْ *
«مَـــــــنْ ازْحـَـامْــنـَا «…
وتنتقل أسرَة آل الملحوني من درب الجامع، إلـَى درب الجديد في نفس الحومة، ولم أدرِ سبب هذا الانتقال، وفيه بدأتُ أتعرَّف على أفراد الأسرة بأسمائهم؛ الأم السيدة زينب السُّباعية، والخالة (الغالية)، وأخي الكبير البكر عمر، والأخ السيد امحمد، والأخت البتُول، وأدركت الفاجعة الكبرى بهول كبير، يوم توفُّى أخي عمر بسبب الأوبئة التي انتشرت بمراكش في هذه الفترة، وتسمى بفترة (التوفيس) ولم تصبر خالتي على فقدانه، وحين خرجت الجنازة، ألقت بنفسها من أعلى ممَّا سبب لها فقدان البصر طيلة حياتها – رحمها الله -.
وإني مدين لهذه الخالة الكريمة بما كانت تقوم به نحوي من عطف وحنان وتلبية لرغائبي كطفل مُدلَّل، وفي حياتها ميزة شخصية عظيمة جعلتها محبوبة لدى الأقارب، والكل كان يطلب أن تقيم عنده، فقد كانت امرأة مرحة واسعة الخيال، وتحفظ الكثير من حكايات وقصص (ألف ليلة وليلة) بإبداع جميل من طرفها، إلى جانب ما كانت تبدعه من الأمثال الشعبية والخبّرات (أي الألغاز)، وغير ذلك مما كان يؤنس الناس ويدخل عليهم السرور والمتعة، وتأثرت بها كثيرا وأخذت منها فيضا من الوَجد الذي كانت تتمتع به، وظلت عازبة طيلة عهدي بها إلى أن تُوفيت – رحمها الله – في بحر الستينيات بالحومة الثانية التي سننتقل إليها، وهي حومة (اِسْبتيَنْ)، نسبة إلى رجال سبتة الذين أقاموا بها مدة، أو سُميت بهذا الإسم، لأن بها كان يقام يوم السوق بالسَّبت كل أسبوع أيام زمان، ولأن هذه الحومة جاءت قريبة من مجموعة من الحَومات والأحياء السكنية ؛ وأتذكر أنني جئت إلى هذه الحومة في السن الثامنة من عمري، وبَقيتُ مُرتبطا بالحومة الأولى (درب ضباشي) لأن أبي قد سجَّلني في كتَّاب : السيد المختار مُومن – رحمه الله – .


الكاتب : n إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 04/03/2025