على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن ..30 لعجيلة و صحبه.. تاريخ مجيد لجمعية الجيلالي امثيرد

تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.

 

*نصل الآن لجمعية الشيخ الجيلالي امثيرد، ربما هي من أقدم الجمعيات الناشطة إلى اليوم بالمغرب. كيف كانت ظروف تأسيسها؟ و من فكر في ذلك و سعى إلى ترجمة الفكرة إلى فعل؟

– ظهرت جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد بمراكش، كغيرها من الجمعيات، وهي ثاني جمعية – يومئذ -تُعنَى بفن الملحون، على المستوى الوطني. وقد انبثقت فكرة التأسيس من جماعة الحاج محمد بن عمر الملحوني – رحمه الله -، من سنة : 1953 ، حين كان الشيخ يتابع في قصائده وقائع “ثورة الملك والشعب”، وما أعقبها من صراعات سياسية بين الحركة الوطنية والمستعمر  !!

*ما أثار انتباهي في عملكم داخل هذه الجمعية، هو تعهد مسألة توثيق كل ما تقوم به بجدية، و هو نادرا ما يحدث في المجتمع المدني..

– يشكو الناس اليوم من قحط وجود الجمعيات الجادة، وأنا أشكو – خصوصا – من قحط الجمعيات التي لا توثق ما تقوم به للأجيال المغربية على تعاقبها ؛ وقحط الجمعيات الجادة ليس قاصرا على تلك الجمعيات وإنما يشمل الجمعيات ذات النفع العام، فهي نفسها لا توثق، وإذا وُثّقتْ بعضُ الأعمال والمنجزات ، فليس من الميسور أن يطلع على ذلك الرأي العام إلا نادرا. إذن، فكلنا يدَّعي المحافظة على التراث المغربي – مثلا – وسجلاتنا فارغة لا تلوي على شيء..

*في نهاية المطاف فما ينتمي للتاريخ، هو الموثق. لذلك فإن إهمال تدوين الحاضر، يؤشر على خسارة كبيرة في المستقبل. لنعد ظروف تأسيس جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد..

– ذكرت في ما سبق أهمية المجتمع المدني الذي تولدت في رَحِمِه “جمعية الجيلالي امثيرد”، التي كان مقرها حومة “السَّبتيين” وتنطقها العامة “اِسَبْتيين” إحدى حومات مراكش العتيقة. وقد ظهرت في ظروف اجتماعية كانت تحيط بها، بل جعلتها تقوم ببعض الأدوار: فنية، وثقافية قبل عهد الاستقلال بكثير. وتعتبر بذرة فنية، رعاها الشيخ محمد بن عمر، حتى أعطتْ أكلها، ونما زرعها في حقول شتَّى. ولم يمت شاعرنا، حتى استوت على سوقها، واتَّضحت معالمها، وأعلنت عن رسالتها الفنية، والثقافية بمراكش، وخارج هذه المدينة التي كانت تعد – بشهادة من الراحل الأستاذ محمد الفاسي – عاصمة فن المحون بدون منازع.
انبثقت هذه الجمعية عن الجماعة التي كانت تحيط بالشاعر الشيخ بن عمر الملحوني إبَّان مرحلة عهد الحماية والتي يمكن اعتبار مركزها “دكاكين”، ودور أفرادها ؛ ومن هؤلاء الذين شكلوا أفراد الجماعة الأولى : الحاج محمد بن عمر، امجيمر العربي، أحمد لـَعجيلة، محمد بن موسى، ابريك البهات، المحجوب الصبَّاغ، وغيرهم كثير، وكثير جدا في هاته الفترة التاريخية العصيبة التي كانت تتابع فيها كل حركة من حركات التجمعات. وهذه الجماعة كانت تستمد من شاعرها محمد بن عمر الملحوني عددا من القصائد، والسرارب من محفوظه، ومنسوخه، وإبداعه، فتتغنَّى بها في المحافل والتجمعات وتُعد بمثابة “الأم”، تولَّدت هي نفسها عن التقليد الذي أشرنا إليه والذي قلنا عنه : إنه ارتبط بالطَّوائف الحِرفية ، فقد كانت كل طائف حرفية، تتوفر على تنظيم داخلي، وعلى شكل تعبيري فني، وارتباطها بزاوية من الزَّوايا الصوفية التي كانت لها – يومه – الصدارة بمراكش.
ونتيجة للظروف السياسية التي كان يجتازها المغرب – آنئذ – فقد وجد المغاربة أنفسهم مضطرين إلى أن يعيدوا النظر في أشكالهم التنظيمية، فكان من الطَّبيعي أن يعمدوا إلى تعديلها، حتى يمكن لهم أن يُواجهُوا، ويسايروا الظروف المستحدثة بوطنهم. ومن هنا يمكننا أن نتبين كيف انبثقت الجماعة التي ستؤسس – فيما بعد – مجموعة “شيخ الأشياخ” التي ستتولد عنها “جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد”. و أذكر هنا أنه نظرا لما لقيه شباب الاستقلال من ميول إلى ثراث فن الملحون، فقد غدا من المولعين بحفظه وإنشاده تحت رعاية الرعيل الأول، ممَّا شجع إلى إحداث جمعية : الشيخ الجيلالي امثيرد.
هذه الجمعية قد استفادت من قوانين مغربية، كانت تـُنظم بموجبها “الجمعيات” على تعدد مشاربها واختلاف اتجاهاتها، وهذا التنظيم كان يسمح لها بمزاولة أنشطتها الفنية، والثقافية، في حدود ما تبيحه القوانين الإدارية المعمول بها، والصادرة – أيضا – في هذا الشأن. وتعمل الجمعية بموجب إصدار قانونها الأساسي، والداخلي، منذ تأسيسها سنة 1970 (وهي السنة التي تم الإعلان عنها رسميا).
ومن سنة التأسيس الرسمي، وهي 1970، وهي تواصل خدماتها الفنية، والثقافية من أجل التعريف بالثقافة الشعبية. وفي هذا الصدد، نظمت مجموعة من اللقاءات الفنية والثقافية على المستوى المحلي، والإقليمي، والوطني. فبالنسبة للأنشطة – المحلية – داخل مراكش – فهي تواصل أسبوعيا جلساتها الفنية والثقافية مع رجال الملحون والهواة بواسطة عادة “دارت” المتمثلة في نظام “الجُمعيات”.
وبالنسبة للأنشطة الجهوية، فهي تُشارك في اللقاءات التي تنظم على مستوى منطقة “تانسيفت”. وبالنسبة للأنشطة الفنية، والثقافية المنظمة على المستوى الوطني، فقد أحدثت مهرجان “الربيع” لفن الملحون، في 1976، ومهرجان سبعة رجال الثقافي 1986، ومهرجان موسيقى التراث، سنة : 1997 في نطاق إحداث توأمة فنية بين مدينتي : تارودانت، ومراكش. ومن مهرجاناتها الأخيرة: مهرجان فن الملحون والأغنية الوطنية.
وبعد موت مؤسسها الحاج محمد بن عمر الملحوني تجددت في برامجها الفنية ووحدت خططها الثقافية من خلال تطويرها للتقليد الاجتماعي المعروف، تحت اسم : “دَارَتْ” وهو ما أطلق عليه اسم “الجُمَعِيات”، بضم الجيم، وفتح الميم، وكسر العين، مفرد “جمعة” : نظام أسبوعي ، تقليدي يحدث بالتناوب للمنخرطين في الجمعية، ومحبِّي فن الملحون، وتراث مراكش.

*يمكننا أيضا أن نقول أن هذه الجمعية انطبعت بشخصية الشيخ عبد الرحمن الملحوني، كباحث في التراث و كتعهد لمسؤولية تدوين و توثيق ما لم يُنتبه له من الذاكرة الشفهية، و اساس كدارس للملحون كظاهرة أدبية..

– الجمعية حصرت مشروعها الفني التراثي بعد انخراط رئيسها الأستاذ عبد الرحمن الملحوني في الدرس والبحث، والمحافظة عليه، إرثا وطنيا. وبذلك تكـُون جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد، جمعية أنشئت بمراكش، لنشر الملحون وصيانته بالكتابة والتدوين إلى جانب جمعية “هواة الملحون” التي يرأسها الأستاذ عبد الله الشليح – رحمه الله -، وقد كان لشاعرنا الحاج محمد بن عمر الملحوني الدور الكبير في هذا الإنشاء والتـَّكوين، إذ مثل المحور، والقطب، الذي تجمَّعت حوله ثلة من المنشدين، وجماعة عريضة من المعجبين بهذا التراث.
وعن التأثير الكبير الذي تركه الشيخ محمَّد بن عمر في جماعته التي كانت تحيط به، يرى الأستاذ محمد بوعابد – أستاذ باحث في تراث الملحون – ، أن أحسن تقليد، قد حافظت عليه جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد، هو اقتداء الجمعية بما سنه الأستاذ محمد الفاسي – رحمه الله – في حياة المترجم له، وهو إحداث مهرجان الرَّبيع الذي عرف أول مؤتمر فني، ثقافي لرجال الملحون. ففي هذا المؤتمر أحيى الأستاذ محمد الفاسي، عادة انتخاب “شيخ الأشياخ” بعدما انقرضت بصفة نهائية، لأن الحاجة قد اقتضت الرجوع إليها.


الكاتب : إعداد: عبد الصمد الكباص

  

بتاريخ : 08/04/2025