الحمدوشية: تهذيب النفس أم تعذيب الجسد؟
تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.
n لنواصل حديثنا عن الجانب الخرافي الذي شاع في تعاطي الأوساط الشعبية مع الرمزية الروحية للرجال السبعة، هل يمكن أن تقدم تفاصيل أكثر حول بعض ما شاهدت و سمعت؟
p نعم، هناك الكثير. ومما يذكرونه في هذا السياق، أن أحد أتباع زاوية سيدي رحال – رضي الله عنه –، رأى يوما نارا شبَّ لهيبها في دكان جاره، فارتمَى – بحماس – وسطها، وأخرج ما كان بالدكان من بضائع ثمينة فقيل له: لماذا غامرت بنفسك وصاحب الدكان إلى جانبك ينظر إلى متاعه تلتهبه النار؟ فقال الرجل: تلك بركة شيخي، الذي أوصاني: كلما رأيت النار تلتهب وهي حامية لا تبالي بها، وأقرأ قوله تعالى: «قلنا يا نار كُوني بَردا وسلاما على إبراهيم»، مع قراءة شيء من أورادنا، وأحزابنا … فقال جاره – في هدوء -: تلك حسنة وقاني الله بها ما ابتلاني به، أما أنت فلست بإبراهيم، فصحح عقيدتك واستقم، فهذا من الضلالات، تتجاوز بها عتبة التوحيد»؛ وهذا ما قد أخذته عن شيوخي من هَدي الإسلام.
n في الحلقة السابقة أشرت، أيضا، إلى الألوان ورموزها..
– وفي معتقدات الألوان ورموزها، ذكروا – في هذا السياق – أن شيخ الطائفة العيساوية الهادي بن عيسى p رضي الله عنه – كان يحب اللون الأبيض والأخضر والأحمر؛ وسأله – يوما – مريده الشيخ أبو الرواين قائلا: أي الألوان أحبّ إلى نفسك؟ فقال: أحب الأبيض للصفاء، وطهارة النفس، وأحب الأخضر، للثناء والحمد، وأحب الأحمر، لما يجب أن نكابده من شرور أنفسها، ومن سيئات أعمالنا!! وأقرب هذه الألوان إلى الروح، اللون الأبيض !!».
وذات يوم دخل أبو الرواين إلى مجلس الشيخ، وقد شدَّ رأسه بسير أحمر، فقال له الشيخ: ما بالك؟ فقال: أخاف من نفسي اليوم أن تسقط هَيبـتُها مع الله، فجعلت من اللون الأحمر تذكارا، يذكرها بما يجب فعله: فقال الشيخ: قال جدي – عليه الصلاة والسلام -: «كل ابن آدم خطاؤون، وخير الخطائين التوابون».. اِنزع سيرك الأحمر من رأسك، واستبدله بالأبيض، لتعلن للملأ عن صفاء قلبك، فتوكل على الحي الذي لا يموت، فهو أرحم الراحمين، وقابل توبة التائبين «.
وكان شيخ الطريقة العيساوية يُوصي مجلس العشرة – وهم جماعة أثيرة من مريديه تخرج للتجارة والدعوة إلى الإسلام – وتحمل الراية البيضاء للأمان، وليطمأن أهل البلد على خَيراتهم، وليوفوا في دعواتهم، وكان يقول لهؤلاء : بشروا، ولا تعسروا، فأهل الأديان الأخرى من أمثالكم : نصارى، ويهود، وتذكروا ما قاله الله لرسوله الكريم : «لستَ عليهم بمُسيطر، إلا مَن تولى وكفر»، فهؤلاء يوحدون الله تعالى، فخاطبوهم بالحُسنى، والله يتولَّى السرائر .»
n *في كتابُكم القيّم تحت عنوان: «أضواء على التصوف بالمغرب» وأيضا في كتابكم: (مسالك صُوفية، للطريقة الحمدوشية)، ترصدون تمزق مآلات مسالك هذه الطائفة ما بين إرشاد تهذيب النفس كما يدعو شيخها المؤسس، وتعذيب النفس كما غذت شائعة في ممارسات مريديها بعد وفاة مؤسسها، وما رافق ذلك من مظاهر مازوشية تقوم على تعنيف الجسد…
p تُعدُّ الطائفة الحمدوشية من بين الطوائف الصُّوفية التي حظيت بإقبال كبير، من لدن مختلف الشرائح الاجتماعية والفصائل المِهنية، على تعاقب الأجيال المغربية، وعلى تـَوالي الأيام والسنين، وإلـَى ما شاء الله تعالى.
وخلال مد تاريخي طويل – منذ ميلادها – كشفت – بدورها – عن جزء هام من ترسيمات المتصوفة لكثير من العادات، والتقاليد، تم ترسيخها في مجموعة من المبادئ والمراسيم في سلوك الأتباع والمريدين، فأضحت – مع الأيام – خطة عَمل مرصوص، ومَسلكا آخر، من مسالك التهذيب والتعذيب، ومنهاجا من مناهج الاتّباع، والابتداع إلى حين…
نعم، فالمَد الصُّوفي، قد بلغ ذروته في المجتمع المغربي، خلال العهد السعدي، وما قبله بكثير، وهاته الفترة التاريخية تُسمى عند الباحثين في تاريخ الزوايا بالمغرب، «صابة الأولياء» و»الصَّابة» – في عُرف الجماعة الشعبية – تعني الكثرة والتنوع وظهور ثمارها التي برزت في القرن العاشر الهجري.
وفيها – أيضا – برزت معالِمُ «الطرقية» التي انتشر صَيتُها وذاع، وملأ المحافِل والأسماع، وبهذا الانتشار في رُبوع المغرب، غدا رجال التًّصوف يمثلون القوة الفاعلة والمحركة لمشاعر الناس وأحاسيسهم دينا ودُنيا، تهذيبا، وتعذيبا ؛ فهاجمت كل القِوَى التي وَجدتها في طريقها، بشتى الحِيَل والمغامرات. وفي خِضمِّ الصراعات التي أخذتها كل الزوايا بالمغرب، لتأكيد دَوْرَها الديني، والاجتماعي، والسياسي، ظهرت «الزاوية الحمدوشية» التي كان لها وجود فعلي بداخل المجتمع المغربي، كغيرها من الزوايا النشيطة، سواء منها ما كان ينتسب إلى علية القَوم والوجهاء، وما ينتسب إلى الجماعة الشعبية العَريضة، كالعيساويين، والحمدوشيين…
n هل كان ظهور الزاوية الحمدوشية متأخرا؟
p في الحقيقة تميز العهد الإسماعلي العلوي بظهور مؤسس الطريقة الحمدوشية، الشيخ علي بن حمدوش – رضي الله عنه- الذي تشبع في حياته بصوفية الجزوليين، وهي صُوفية لها سند شاذلي، وأساسُها الحبُّ النبوي الكريم، وصفاء ذات المحب التابع. وهذه الذات – عند الشيخ الحمدوشي – لا تصفو، إلا بمكارم الأخلاق التي تجسَّدت مظاهرها في الأدب النبوي، وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذه السيرة العطرة بأخلاق الله، جعلت من الشيخ عَليّ بن حمدوش من المتشبثين بها، والدَّاعين إلَيها، مع الآداب الشرعية، والأخذ بظروف الأتباع والمُريدين، وحاجات الناس إلى التطور والتجدد. وكان يقول لأصحابه: «إن سلوكنا كله جد، فلا تمزجوه بشيء من الهَزل».
وهذا حين رأى أصحاب شيخه الْهادِي بن عيسَى – رضي الله عنه – قد بالغوا في «شطحاتهم» أثناء الذكر، لأن ذلك – في نظر الشيخ عليّ بن حمدوش – من وسائل إخماد شعلة الصفات البَشرية في المُريد، ومُجابهة الدعاوي النفسانية، ومُنازلة المحامِد الرُّوحانية، وتعطيل قوى الإرادات في الإنسان السَّوي!
لقد تمخض اعتزال الشيخ عليّ بن حمدوش، بظهور جماعة أثيرة عنده، كانت تحيط به في السَّراء والضَّرَّاء تلتف به، ويَلتف بها سواء بسواء، وهي النواة الأولى لتأسيس الجماعة الحمدوشية في مَعالمها الأولى.
n ما هي المعلومات الأساسية التي تسمح لنا برسم بروفايل مؤسس الطريقة الحمدوشية التي لعبت أدوارا شتى في تاريخ الزوايا الصوفية بالمغرب؟
p إنه الشيخ علي بن حمدوش بن عمران، الشريف العلميّ العروسي، كما عرف به المؤرخ أبو الطيب القادري، في كتاب : الدرر، والشيخ الكتاني، في كتاب : سلوة الأنفاس، ومُؤرخ مكناسة الزيتون، عبد الرحمن بن زيدان، في كتاب : الأتحاف … نعم، فهؤلاء لم يشيروا إلى تاريخ ولادتِه، ونشأته، والمتفق عليه من هؤلاء، ومن غيرهم، ممن عنوا عناية خاصة بالطريقة «الحمدوشيةّ أنه عاصر حُكَم السلطان العلوي، مولاي اسماعيل . فلقد نشأ الشيخ عليّ بن حمدوش في محيط عائلي شريف، مُتشبعا بالقِيَم الروحية، ببني «عروس» مقر الشرفاء العلميين، حيث حفظ القرءان الكريم، وتزود بزاد العارفين في صِباه، وشبابه، ونَهَل الكثير من حياض علوم القـَوم في كهولته وشيخوخته، فاستقر به الحال بزاوية أبي عبيد الشرقي بأبي الجعد، وتتلمذ على الشيخ العريان – رضي لله عنه – وعنه أخذ العلوم الشرعية، ومبادئ التصوف .
ومما تحكيه الذاكرة الشعبية أن الشيخ الحمدوشي حين أقبل على مجالس شيخه العريان، أذِن له بالقُرب منه، ولما أنهى دَرسَه، التفت إليه وخاطبَه بقوله:
«جئتنا اليوم، يقودك الشوق إلى معارفنا، فخذ منها عن يقين، ما يقبله قلبُك، وَدَعْ منها ما يتردد في خاطِرك، بين قبوله ورفضه، وإياك أن تبخل على نَفسِك بالسؤال عما لا تفهمه، فالفهم مرقاة الوُصول للانتفاع بعلوم القوم، ورب حامِلِ علم، إلى من هو أعلـَمُ منه «.