على هامش صدور نص «اكتشاف الصين» للأستاذ الطيب بياض..

 اطلبوا «الدرس» ولو في الصين

ما هي الصورة المرجعية التي ظلت تؤطر نظرة المغاربة والمسلمين تجاه واقع بلاد الصين؟ وما هي التمثلات التي ظل المسلمون يحملونها بخصوص واقع أقاصي هذا البلد البعيد جغرافيا وحضاريا عن الامتدادات العربية الإسلامية المتداخلة؟ وهل نجح العقل العربي في فهم حيثيات صعود التنين الصيني وتحوله إلى قوة عالمية فعالة، ومؤثرة اقتصاديا وسياسيا وعلميا وتكنولوجيا وثقافيا؟ وكيف استطاع هذا العقل الجمع -في تناغم فريد واستثنائي- بين روح الحكمة لدى كونفوشيوس وبين البعد الثوري التحرري في تجربة ماو تسي تونغ، ثم بين مشاريع النهوض والإصلاح لدى دينغ شياو بينغ؟ وقبل كل ذلك، كيف أمكن لهذا البلد الرائع الجمع بين المتناقضات التي لا يمكن الجمع بينها في باقي بلاد المعمور، وذلك في إطار النمط المعروف باسم «اقتصاد السوق الاشتراكي»؟ وكيف استطاعت الصين تقديم فهمها المبادر والمجدد للنظام الشيوعي وفق رؤية ترفض التحنيط وتراهن على المشترك الإنساني بتعبيراته المنسجمة مع الخصوصيات المحلية؟ وهل صدقت الرؤيا التي طرحتها بعض المنابر الإعلامية الغربية عند ترديد توقعاتها الماضية التي تحولت إلى واقع قائم اليوم، وهي التحولات التي اختزلتها الصيغة الشهيرة القائلة: «عندما ستستيقظ الصين، سيهتز العالم»؟ وما هي حدود نجاح هذه النبوءة على أرض الواقع؟ وما هي المقارنات التي يفرضها السياق بين ما يقع هناك من تحولات شاملة ذات إيقاع سريع، وبين حالة الركود والسكون المستدامين داخل ضفاف عالمنا الواسع؟
أسئلة متناسلة، تثيرها القراءة المتأنية للعمل الجديد الصادر مطلع السنة الجارية (2022) للأستاذ الطيب بياض، تحت عنوان «اكتشاف الصين- رحلة أكاديمي مغربي إلى أرض التنين»، وذلك ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية- عين الشق بالدار البيضاء، في ما مجموعه 184 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول، إن هذا العمل يشكل انفتاحا مثيرا من باحث أكاديمي متخصص في «درس التاريخ» على مجال سردي أثير، تتداخل فيه الاهتمامات وتتقاطع عنده المعارف وتتكامل عبره الرؤى. ونقصد في هذا المقام، أدب الرحلة الذي ظل يصنع الكثير من عناصر البهاء داخل بنية المتون الإبداعية العربية، الكلاسيكية والمجددة. لقد قيل الشيء الكثير عن أدب الرحلة، وعن أجوائه الغرائبية، وعن محكياته العجائبية، وعن قيمه التواصلية، وعن عطاءاته الإبداعية المرتبطة بدهشة اكتشاف الجديد. ومع ذلك، فقد ظل هذا المجال متجددا بامتياز، في قضاياه وفي أسئلته وفي توظيفات تأملاته المجهرية التي تلتقط التفاصيل المغايرة قبل أن تدمجها في سياق نمط سردي استرجاعي يعيد تركيب الوقائع من منطلق أسئلة الذات المتفاعلة مع الاخر ومع فردانياته المخصوصة.
لم تكن بلاد الصين غائبة -أبدا- عن كتابات العرب والمسلمين، فقد قال عنها ابن بطوطة: «وإقليم الصين متسع، كثير الخيرات والفواكه والزرع والذهب والفضة، لا يضاهيه في ذلك إقليم من أقاليم الأرض». وقال أبو حيان التوحيدي عن أهلها أنهم «أصحاب أثاث وصنعة». وقال الجاحظ عن الصينيين أنهم «أحذق خلق الله كفا بنقش وصنعة وكل عمل، لا يتقدمهم فيه أحد من سائر الأمم»… وعلى هذا المنوال، يندرج ذكر بلاد الصين في أمهات المصنفات العربية الإسلامية المشتغلة على أبعاد الأمصار والأقاليم والبلدان، مثلما هو الحال مع كتابات ابن حوقل وياقوت الحموي…
لقد استطاع الأستاذ الطيب بياض تقديم سرد شيق لوقائع رحلة علمية ألقت بصاحبها في تجربة فريدة لاستنطاق خبايا تقدم دولة الصين وأسرار انطلاقتها الحضارية الكبرى. ولقد لخص الأستاذ عبد المجيد الجهاد السياق العام الذي تندرج في إطاره هذه الرحلة، عندما قال في كلمته التقديمية: «على الرغم من أن هذه الرحلة الاستكشافية للصين جاءت «تحت الطلب» بدعوة من الحزب الشيوعي الصيني الحاكم لنخبة مختارة من بين «المؤثرين وصناع الرأي» في بلدان إفريقيا، قصد وضعهم في صورة التحولات العميقة التي تشهدها الصين منذ أزيد من ثلاثة عقود من الزمان، بغاية نقلها بأمانة إلى أهلهم، فإن الطيب (بياض) لم يسقط في أسلوب التمجيد والإطراء، بل تجده ينظر إلى التجربة الصينية المعاصرة بعين المحلل الأكاديمي الفاحص لموضوعه بتحقيق وتدقيق بعيدا عن أي محاولة للتزويق والتنميق. فلم تتوقف مشاهداته عند حدود الدهشة والانبهار، وصدمة التعرف البدئي التي عادة ما يصاحبها قدر من علامات التعجب والاستغراب، بل تجده عبر مدارات فصول رحلته يعقد المقارنات والموازنات بين النموذجين التنموي الصيني والرأسمالي الغربي، مستحضرا أمام ناظريه التجربة الأوربية المتشرنقة داخل ذاتها…» (ص ص. 12-13).
وعلى هذا الأساس، فتحت الرحلة آفاقا واسعة لتوليد سلسلة من المقاربات التي ارتكزت إلى حس نقدي ثاقب، لعله من أهم مميزات عين المؤرخ التي تتجاوز الانبهار اللحظي بالكليشيهات الجاهزة، في مقابل التركيز على السياقات وعلى التأني في قراءة تفاصيل ما تلتقطه العين من صور حبلى بكل عناصر المغايرة. تبرز شخصية المؤرخ قوية بين ضفاف هذا المتن، من خلال مستويات متعددة، لعل أهمها مرتبط بالقدرة على تعزيز جل المحكيات بالإحالات وبالوثائق وبالشواهد المادية، ثم تجنب عمليات الإسقاط الجاهز على قضايا مشتركة بين الضفتين المغربية والصينية، بين ال»هنا» وال»هناك». وبذلك استطاع الأستاذ بياض تجاوز التنميط الاستنساخي للأحكام ولنتائج المقارنات المرتبطة بضغط العاطفة وبمهاوي الذاكرة الجماعية المتأثرة بوقع السقوط والتردي في هذا ال»هنا». يقول المؤلف في هذا السياق: «أحيانا تبدو المقارنة منتجة مخصبة لأفكار الاستئناس بتجارب ناجحة وتبيئتها في التربة المحلية، دون استنساخ ولا إسقاط، لأن أهم درس فيها السياق، وأحيانا أخرى ينتصب شعار «لا قياس مع وجود الفارق»، خاصة حين تظهر الهوة التكنولوجية سحيقة ورهيبة. بيد أن الدرس المزدوج للروح الجماعية في مقابل الفردانية والأنانية المفرطة، والكتلة الديموغرافية كرافعة للتنمية ضدا على مالتوسية تبريرية فجة، يبقى خليقا بأن يكون الحصة الأولى ضمن المنهاج الدراسي لمن أراد أن يجلس في الصف الأول داخل مدرسة المعلم، يحمل دفتره ليتعلم كيف يمكن أن يكون نصف قرن كافيا لنهضة تهز العالم هزا…» (ص. 101).
خلفت هذه القراءة إحساسا عميقا بوجود فرق واختلاف عميقين، جعل الأستاذ بياض ينحو نحو نوع من النقد الذاتي الصارم في مقارناته واستحضاراته واسترجاعاته المرتبطة بقلق البحث عن تفسير أسباب التردي الحالي داخل فضاءات هذا ال»هنا» الشاسع. يقول المؤلف: «ما استقر في البنية الذهنية للمغاربة طيلة قرون طويلة تعرض للاهتزاز، حيث تراجع الرمزي أمام سطوة المادي، وهيمنت الأنانيات وتقدمت المصالح الشخصية على الصالح العام. فتساءلت في غمرة هذا الشرود الذهني عن الحاجة إلى ابتكار آليات لاستعادة القيم وشحذ الهمم، وعن اعتبار اللجوء إلى الخدمة العسكرية الإجبارية سبيلا لإحياء قيم المواطنة وروح المبادرة. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يستدعي تعضيدا بأدوات عمل مدنية أشمل عبر تعبئة مجتمعية حسب الفئات، تبتكر أفكارا ومقترحات وحوافز رمزية ومعنوية لكي تطال مختلف المجالات الاجتماعية بعد فترات تدريب وتكوين؟ وماذا عن مناهجنا التعليمية ووسائل إعلامنا ودورها في بعث روح التطوع والتربية على ثقافة المواطنة وخدمة الصالح العام لخلق جيل جديد متشبع بها؟…» (ص. 45).
وبهذا المنحى في الاستقراء، استطاع المؤلف توطين خلاصاته داخل بيئته المحلية، وتحويل سرده إلى نافذة مشرعة لطرح الأسئلة المقلقة حول أسباب التردي والسقوط، في تقابل مع حرصه على إبراز معالم النهوض والانطلاق في النموذج الصيني. لا يتعلق الأمر بكتابة تسجيلية للمعالم القائمة وللوجوه المتساكنة وللقيم المتداولة، بقدر ما أنها استقراء عميق للتراث الرمزي الذي يصنع للصين فرادتها بين الأمم، ويضفي عليها تميزها الذي جعل منها «قارة» مستقلة بذاتها، مطمئنة لمدرستها «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، ولبراغماتيتها التي أطرت انفتاحها على العالم، قبل الانتقال إلى الفعل فيه والتأثير فيه والهيمنة عليه اقتصاديا وثقافيا.
لقد سار الطيب بياض على هدي سلفه ابن بطوطة، الأمر الذي مكنه من فتح نوافذ الصين مشرعة أمام قراء العربية، ليس -فقط- من زاوية التدوين الحدثي الخطي المرتبط بمسار الرحلة، ولكن -أساسا- من جانب التوثيق للتراث الرمزي الصيني الذي يعتبر التعليم والإنسان منطلقه ومنتهاه ، حيث يمثل أسمى درجات النبوغ في إنتاج قيم المواطنة والواجب والاحترام. يقول المؤلف في معرض حديثه -على سبيل المثال لا الحصر- عن واقع التنقل والجولان وأعمال التنظيف بمدينة بكين: «على ذكر تنظيم المرور بهذه المدينة، استوقفتني مسألة السلاسة والانسيابية في السير والجولان، وتفادي الاصطدام رغم غياب المستديرات، إذا صارت الأمور مألوفة عند سكانها وجزءا من نظام السير وفق ضوابط محددة متناغمة مع مكوناتهم الحضارية والثقافية. هناك ميزة أخرى… يتعلق الأمر بالنظافة، فهم ينظفون كل شيء، حتى التماثيل والنصب التذكارية التي تزين الشوارع، إذ يعمدون إلى غسلها في الصباح… بل إن الشاحنة التي تمر لكنس الشوارع تتحف المارة بموسيقى ناي رائعة. والظاهر أن النظافة طقس مقدس لديهم، لا تكتمل حضارتهم إلى به. وفي هذه المدينة… رأيت تلك الليلة، أمام المطعم الذي تناولت فيه وجبة الفطور، عاملة نظافة تقوم بعملها بتفان وحبور، كما لو أنها كانت مستمتعة بخدمة تقدمها لمدينتها، قبل أن تغادر الشارع على متن دراجتها الكهربائية…» (ص. 87).
هذه قيم الصين التي صنعت لها عظمتها وأطرت أسس تجانس مجتمعها، مما يحمل الكثير من العبر المرتبطة ب»الدرس الصيني» الذي نجح الأستاذ بياض في التوثيق لتعبيراته بلغة راقية، جمعت بين السلاسة والانسيابية وملكة الاستعارات والمجازات من جهة، وبين صرامة المؤرخ في انتقاء ألفاظه في سعيه لكبح جماح عاطفته ومشاعره الجياشة المرتبطة بفعل اللحظة وبوقعها المباشر على الذات.
هي كتابة تستلهم درس التاريخ بتطويعه داخل متن شيق يفتح جسور الامتداد والانتقال بين ضفاف عوالم الحكي العجيبة، باستثمار رحابة السرد الأدبي من جهة، وبالانضباط لصرامة قوة العدة التاريخية من جهة أخرى. وفي ذلك تجسيد، لطفرة منهجية لا بد وأن تثير الانتباه إلى الإمكانات الواسعة التي أضحت تتيحها نصوص الرحلة بالنسبة للبحث التاريخي المتخصص، حيث يتحول المؤرخ إلى شاهد على لحظات الزمن الراهن، وعلى أسئلة الذات المنشغلة بقضايا «الغيرية». تتيح لغة السرد الأدبي إمكانيات هائلة للتعبير عن ما لا يمكن التعبير عنه بلغة البحث التاريخي في معناه التخصصي الضيق، كما تسمح بتجاوز حدود الصرامة المنهجية قصد التوثيق لعناصر غير مادية، مثل التراث الرمزي وعطاء الذهنيات الجماعية ونظيمة الفكر والإبداع. وبذلك، يتحول نص الرحلة إلى سؤال تفكيكي لأسباب الإعاقة بالنسبة للذات، في مقابل التأصيل لشروط فهم «الآخر» في أفق استيعاب مرجعياته والوعي بمحددات واقعه التاريخي.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 21/01/2022