من المعلوم أن العمل اليدوي او الجسدي كان ينظر إليه نظرة احتقار وازدراء في المجتمعات القديمة سواء عند اليونان او عند الرومان …فقد كان اليونان يعتقدون أن الشغل يعني العذاب والتعب ، ويرون أن هناك نوعين من الفاعلية البشرية :
_ الفاعلية الفكرية أي العمل الفكري ( الذهني ) أو الحكمة ( الفلسفة ) ، وهذه فاعلية عليا محترمة خاصة بأفراد الطبقات العليا في المجتمع ، وهم أساسا المواطنون الأحرار اي السادة ، ولذلك يختص هؤلاء بممارسة المعرفة النظرية ، والتأمل الفلسفي ، وتسيير شؤون الإدارة وتقلد المهام السياسية ، والاهتمام بفنون الحرب .
_ أما الفاعلية الثانية فهي الفاعلية الجسدية أي العمل اليدوي ( الممارسة ) ، وهي فاعلية دنيا محتقرة ، يجب ان تسند إلى الطبقة السفلى في المجتمع الا وهي طبقة العبيد .
ففي جمهورية مثلا ، صور هذا الفيلسوف جماعة خيالية تنقسم الى طبقات ثلاث كل منها منفصلة عن الأخرى بشكل قاطع ، ولكل منها صفة معدنية خيالية : طبقة الحكام ، ولديها قالب فكري ذهبي ، للحكم . طبقة الجنود او الأعوان ، ولديها قالب خليط من الفضة ، للحرب وأعمال البوليس في الدولة . طبقة العمال ، وهي تشارك في المعادن الدارجة ، للقيام بالعمل في المجتمع وللرضوخ .
ولا يقل ازدراء الرومان بالعمل عن ازدراء اليونان ، اذ يعتبرونه مصيبة تنزل على الحيوان والعبيد . ولذلك ينصرف السادة الى العمل الذهني والى احتراف الجندية وممارسة الرياضة ، بل ان الأناجيل نفسها كانت تنظر الى العمل على أنه فعل ذليل حقير ، وأنه مشقة وتعب يعبران عن عقاب موجه الى الإنسان ، « الانسان الخطيئة « , عندما قذف به إلى الأرض …
وهذا التحقير للعمل اليدوي _ الجسدي امتد في كل ألأزمنة والأمكنة ؛ تحقير للمهن والحرف اليدوية وتحقير لعمالها والمشتغلين بها …ونحن في المغرب نلاحظ نظرة المغاربة لهذه المهن ولاصحابها ؛ نظرة دونية تتمثل في ظروف الاشتغال واشكال التعامل وهزالة الاجور…
واليوم ، وفي زمن جائحة كورونا ؛ تتم إعادة النظر وتصحيح الكثير من التمثلات الخاطئة ؛ وعادت الى المهن البسيطة ، التي كان يعتبرها البعض عادية وغير مهمة او غير مرئية ولا تعني شيئا ، كل الحيوية والحساسية الحقيقية التي لها .
اكتشف المغاربة أن اهلنا الذين يتولون نظافة أحيائنا هم أهمنا ، وهم يكلفون أنفسهم يوميا عناء ما نضعه نحن في الحاويات ولا نشغل بالنا بالبحث له عن المسار والمسير .
فتحية عالية للقائمين على النظافة والذين لم يخلفوا الموعد وواصلوا عملهم ضد الوباء بايمان قوي بالنصر عليه .
اكتشف المغاربة ، اذن ، العديد من المهن التي كانت تبدو لهم عادية وربما نافلة ، والحياة تعود اليها في زمن الشدة هاته وواعدوا أنفسهم ووعدوها انهم حين الرخاء لن ينسوا هاته المهن ، ولن ينسوا هاته الفئات ، ولن ينسوا أن هذا الدرس القاسي ، الذي نمر منه اليوم ، سيكون ذا معنى وذا قيمة اذا خرجنا منه بأقل الأضرار ولم نعد لارتكاب نفس الأخطاء التي جعلتنا ننسى العديد من الأساسيات الحقيقية في الحياة ، قبل أن يذكرنا بها هذا الوباء بقسوة ودون رحمة .