أعلن بنك «ستاندرد تشارترد» البريطاني عزمه التوسع في القارة الإفريقية واضعا المغرب ضمن قائمة البلدان المرشحة لاحتضان فرع جديد له، في خطوة تعكس رهانه الاستراتيجي على أسواق واعدة تجمع بين الاستقرار الاقتصادي والجاذبية المالية. فالمؤسسة البنكية العريقة، التي تتخذ من لندن مقرا لها، كشفت على لسان كريس إيغبرينك، الرئيس التنفيذي ورئيس قطاع البنوك والتغطية بجنوب إفريقيا، أنها تدرس بعناية إمكانية دخول السوق المغربية، مستندة في ذلك إلى معايير دقيقة تتعلق بالإطار التنظيمي ومستوى الطلب المتوقع من العملاء.
هذا التوجه لا يأتي معزولا عن السياق العام الذي بات يطبع استراتيجية البنك في إفريقيا، حيث اختار خلال السنوات الثلاث الأخيرة نهجا يقوم على تقليص حضوره في الأسواق الصغيرة أو التي تعاني من هشاشة تنظيمية، مقابل تعزيز وجوده في مراكز مالية أكثر استقرارا. فقد انسحب فعليا من دول مثل زيمبابوي، أنغولا، الكاميرون، غامبيا، سيراليون وتنزانيا، ويجري حاليا مراجعة شاملة لفروعه في بوتسوانا، أوغندا وزامبيا، تمهيدا لاحتمال التخارج منها. ورغم ما قد يفهم من هذه التحركات على أنها انكماش، فإنها في الحقيقة تعبر عن عملية إعادة تموضع دقيقة تضع الجودة محل الكمية، وتراهن على الانتقائية بدل الانتشار.
وفي المقابل، لا يخفي مسؤولو «ستاندرد تشارترد» أن نيتهم التوسع في المغرب ترتبط برؤية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز خدمات إدارة الأصول والخدمات المصرفية الموجهة للمقاولات العابرة للحدود. وهي قطاعات تشهد نموا مطردا في المغرب، بفضل التحولات الهيكلية التي عرفها الاقتصاد الوطني في العقدين الأخيرين، وما رافقها من إصلاحات في النظام البنكي، ومن تزايد في الطلب على الخدمات المالية المتخصصة من قبل نخبة اقتصادية صاعدة، محليا وإفريقيا.
المغرب، بموقعه الجغرافي الاستراتيجي وتنوعه الاقتصادي وتطوره البنكي، بات يشكل في نظر المؤسسات المالية الكبرى منصة مثالية للانطلاق نحو أسواق إفريقيا الغربية والفرنكوفونية. كما أن المشاريع الرائدة التي أطلقتها المملكة، وعلى رأسها القطب المالي للدار البيضاء، تسهم في ترسيخ صورتها كفاعل مالي قارّي قادر على استقطاب الاستثمارات البنكية الكبرى. هذا التحول النوعي في بنية الاقتصاد المغربي لا يمر دون أن تلتقطه الأبصار الحادة لصانعي القرار الماليين العالميين، وفي مقدمتهم «ستاندرد تشارترد»، الذي يبحث عن بيئات ناضجة وآمنة لتوسيع نطاق خدماته الرفيعة.
ولعل ما يزيد من واقعية هذا التوجه هو أن البنك سبق أن خاض تجربة مماثلة في مصر، حيث افتتح فرعاً كاملا على الأرض، مما يؤكد جديته في تعميق حضوره في إفريقيا بشكل عملي ومباشر، لا يكتفي بالشراكات أو التمثيليات الرمزية. لكن تفعيل القرار في الحالة المغربية يظل رهيناً بعنصرين رئيسيين، كما أشار إلى ذلك إيغبرينك: الحصول على الضوء الأخضر من السلطات التنظيمية المغربية، وتوفر قاعدة زبناء كافية لتبرير الكلفة الاستثمارية.
في ضوء هذه المعطيات، لا يمكن النظر إلى نية «ستاندرد تشارترد» دخول السوق المغربية كخبر مالي عابر، بل كمؤشر على جاذبية متنامية لهذا السوق في الأوساط المالية الدولية، وعلى انتقال المغرب من خانة المتلقي إلى موقع الشريك في صياغة ديناميات التمويل الحديثة في القارة. وإذا ما تحقق هذا الدخول، فإنه سيحمل معه زخماً جديداً للقطاع البنكي الوطني، ويفتح آفاقاً واسعة أمام تعميق المنافسة وتحديث الخدمات ورفع جودة العرض المالي، في انسجام مع طموحات المغرب في لعب دور ريادي في تمويل التنمية الإفريقية.