كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.
هناك عنصران مهمان يبدو لنا من الضروري إبرازهما لتسليط الضوء على البساطة التي بدت بها، بعد عقود، النيوليبرالية، طبيعية.
أولهما له علاقة بتصور النظام الاجتماعي، حيث إن أحزاب الحركة الوطنية (الاستقلال بزعامة علال الفاسي، وحزب الشورى والاستقلال بزعامة حسن الوزاني) والملكية يشتركان في الرؤية المحافظة للمساواة يمتحانها، كما قلنا، من الفكر الإسلامي الإصلاحي. والحال أن مبدأ اللامساواة، بالنسبة لهذا الفكر معطى طبيعي لا نقاش فيه بمقتضي الآية 71 من سورة النحل.﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.
وعليه، فلا يمكن الطعن في النظام الاجتماعي لاعتبارات العدل، كما أن اللامساواة في الرزق جزء من مبدأ التمييز، ومن ثمة فإن الفعل العمومي لا يمكنه أن يكون إلا تصحيحا.
العنصر الثاني مرتبط مباشرة بطرائق الحكم التي تأكدت منذ السنوات الأولى للاستقلال، والناجمة عن طوارئ وتبدلات موازين القوة والصراعات السياسية، أو وزن التشكلات السوسيوسياسية أكثر منها ناجمة عن التوجهات الإيديولوجية .. وبهذا فإن اختيار اقتصاد ليبرالي ليس نتيجة قرار سياسي بقدر ما هو نتيجة اللافعل، وذلك لسبب بسيط هو أن هذا الأمر، في سياق الاستقلال، كان هو الأسهل والطبيعي !، والفاعلون لا يعرفون فعل شي آخر مغاير.. ومنذ نهاية الخمسينيات، وعكس ما حدث في أوضاع بعد كولونيالية أخرى، لم يكن “العمومي” هو الدائرة الوحيدة لإثبات قوة الحكومة. ليس فقط لأن مبدأ الملكية الخاصة كان يعتبر غير قابل للمس، بل وبشكل أوسع كانت الأنشطة من خارج دائرة “العمومي” تعتبر أساسية لإثبات قوة الدولة. وبعيدا عما يعتبر عادة ( أي اختيار اقتصاد ليبرالي، والإبقاء على كبار الفاعلين الكولونياليين الخواص الى نهاية الستينيات)، لم تختزل الأنشطة الحكومية في عمل الآلة الإدارية للدولة بل نشطت في الدائرة الخاصة على شكل أنشطة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. هكذا نجد أن المدارس الخصوصية، المفكر فيها في البداية كشكل من أشكال مقاومة الاستعمار، ما فتئت تتزايد بعد الاستقلال، والحال أن الأحزاب السياسية اختارت المدرسة العمومية. ولعل جوهرتي النظام التربوي الوطني، من أيام الاستعمار إلى أيامنا هذه، هما مجموعة مدارس بنيس بالبيضاء وبلبشير بالرباط ، واللتين يملك فيها جزء مهم من الوطنيين أسهما!
ومن جهة أخرى، فإن إثبات السيادة الاقتصادية للمغرب تحقق بواسطة عمليات تملك خاصة، حين تصبح شخصيات سياسية، “فاعلين اقتصاديين” والعكس . كان محمد لغزاوي، وهو مالك مهم لشبكات النقل، أول مدير للأمن الوطني ثم رئيسا للمكتب الشريف للفوسفاط، ووزيرا أكثر من مرة ( الأشغال العمومية، الصناعة المناجم، السياحة والصناعة التقليدية )، كما أن محمد كريم العمراني التاجر الكبير والمساهم في صناديق الاستثمار، الذي أطلق عليه اسم “جوكير الملك”، تولى رئاسة المكتب الشريف للفوسفاط ، وست مرات وزيرا أول في عهد الحسن الثاني كما شغل في 1983 وزارة التقويم الهيكلي مكلفا بالتفاوض مع المؤسسات المالية الدولية..
والأكثر تفردا وتمييزا للمسار المغربي، وجود مفاوضات تجارية دولية بل أعمال سيادية خاصة بالدولة، مثل إنشاء البنك المركزي للمغرب، يمكن أن يقوم بها فاعلون خواص بدون ارتباط حكومي رسمي. ولعل أعمال إيرين بونو حول بناء “الوطني” ذات أهمية خاصة تفيد أقوالنا. هذه الأعمال تبين، من خلال الآثار التي تركها أحمد بنكيران طوال حياته النشطة، تبين أن الصراعات بين الحركة الوطنية والملكية، وداخل الحركة الوطنية ، شلت المؤسسات وساهمت في نقل الوظائف الحكومية إلى فاعلين خواص قادرين على الجمع بين أوضاع السلطة وأوضاع مراكمة المال والمعارف السياسية مع المعارف الإدارية والشبكات الوطنية مع الشبكات الاقتصادية…