عندما يكتب الشعر ذاكرته

مدخل للتأريخ الثقافي

 

أصبح مجال تاريخ الذهنيات حقلا أثيرا لدى مؤرخي الزمن الراهن، ليس -فقط- بالنظر لقدرته على رصد معالم النبوغ الحضاري الذي ينتجه المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى، ولكن – أساسا- بالنظر لقدرته على رصد أبرز خصائص التراث الرمزي الذي تتساكن داخله مكونات المجتمع، قبل أن يصبح عنصرا موجها لنظيمة الخلق والإبداع ثم لأنماط تدبير العيش المشترك داخل فضاء جغرافي مخصوص وفي سياقات تاريخية محددة. وعلى هذا الأساس، تنهض مقومات الهوية الثقافية الجماعية التي تتقاطع عندها الفردانيات والمواقف والرؤى، على اختلاف توجهاتها وعلى تباين منطلقاتها وعلى تشعب حميمياتها المرتبطة بذات المبدع في علاقته بعوالمه أولا، وبمحيطه ثانيا، ثم بانتمائه وبأحلامه وبيوطوبياته ثالثا. وإذا كان المؤرخ التقليدي قد ظل حريصا على الإعراض عن «التوثيق» للتعبيرات الفنية والجمالية للتراث الرمزي بحكم انتظامها خارج نسق الكتابات التاريخية الكلاسيكية، فالمؤكد أن التطور الهائل الذي أضحت تعرفه مناهج البحث التاريخي المعاصر، أصبحت توجه المؤرخ نحو توسيع حقل مظانه وبيبليوغرافياته، للانفتاح على التراث الإبداعي، شعرا ونثرا، قصد استخلاص منه ما يجب استخلاصه من قيم لامادية، ومخترقة للأزمنة وللعصور، مما لا يمكن القبض بتفاصيله بين متون الكتابات التاريخية التقليدية المحافظة. وعلى هذا الأساس، بدأ التوجه نحو النصوص الروائية والشعرية والمسرحية والأعمال التشكيلية، قصد وضع التوافقات المنهجية الكبرى الكفيلة ببلورة أسس التعاطي العلمي مع المادة الإبداعية المدونة في شقيها المتكاملين، الجمالي المستلهم للقيم الإنسانية التي تصنع التميز الحضاري للفرد وللجماعة، ثم التاريخي عبر اختراق آفاق التجديد المنهجي الكفيل بتطويع النص الإبداعي قبل تحويله إلى مادة خام قابلة للتحليل وللتشريح وللتفكيك وللاستثمار بالنسبة لمؤرخ تاريخ الذهنيات والقيم الثقافية. لا يتعلق الأمر بكتابة نقدية متخصصة في إواليات صنعة الكتابة الإبداعية، بقدر ما أنها منزع علمي للقبض على التفاصيل الرمزية المنفلتة من بين ثنايا السرديات التاريخية الكلاسيكية.
في إطار هذا التصور العام، يندرج انفتاحنا على العمل التركيبي العام الذي أصدره الأستاذ محمد بنقدور الوهراني سنة 2020، تحت عنوان «نصوص غائبة- شعراء وشعراء»، مع عنوان فرعي «أنطولوجيا ميتا شعرية»، وذلك في ما مجموعه 177 من الصفحات ذات الحجم الكبير. فالعمل يقدم تجميعا راقيا للسير الثقافية لعدد من المبدعين المنتمين لحساسيات شعرية مختلفة ولأجيال متعاقبة، وفق رؤية عميقة لا تكتفي بالمعطيات التقنية الخاصة بكل واحد من الأسماء التي اهتم بها المؤلف، بقدر ما أنها تسعى إلى الغوص عميقا داخل ثنايا حصيلة المنجز من وجهة نظر القراءة التفكيكية الفاحصة والمنشغلة بالقبض بعناصر التميز والفرادة التي تعطي للإبداع سمته الخاصة. يتعلق الأمر برؤية نقدية تقارب الشعر من خلال قضاياه، ومن خلال أشكال الافتتان التي تطبع ذات المؤلف في انفتاحه على الأسماء والتجارب والمدارس والحساسيات. ويلخص الأستاذ محمد بنقدور الوهراني الإطار العام لهذه الرؤية بشكل دقيق في كلمته التقديمية، قائلا: «إن المسلمة التي ينطلق منها الكتاب هي أن علاقة النقد الأدبي بالأعمال الأدبية هي علاقة مركبة، مفصلها المرجعية الأدبية، وحقولها الثقافة، ومحورها الإنسان في وجوده الذاتي والاجتماعي والإبداعي في الوقت نفسه، لا يمكن لأي دراسة أن تكون تامة بدون وجود وسائط اتصال أو حوافز ذاتية مرتبطة بالذوق أو بالتقبل تجمع ما بين الكاتب والمادة المدروسة، سواء كانت نصوصا شعرية أو مبدعين شعراء. بين الكاتب الناقد والشاعر الكاتب يجب أن تكون هناك علاقة تداخل ومشاركة، أو لنقل، يجب أن توجد علاقة قرابة بينهما، ليس بالضرورة أن تكون قريبة في النشأة الأولى للخلفيات الفكرية والجمالية، ولكن، على الأقل، قرابة تحيل على اتصال ما، أو إعجاب ما، أو اقتناع ما، أو تذوق ما، أو إيمان ما،…» (ص ص. 3-4).
ويوضح المؤلف دوافع اختياره لأسماء دون أخرى، بشكل دقيق عندما يقول: «إن انتقاء الشعراء ارتكز على خلفيات ذاتية أكثر منها فنية أو موضوعية، العلاقة النفسية بين الكاتب والأغلبية الساحقة من الشعراء حددها الجانب الإنساني أولا، ثم امتد ليلامس الجوانب الأخرى المرتبطة بالعملية الإبداعية…» (ص. 4). باختصار، فالأمر يتعلق بتفاعل ذات المتلقي مع عطاء محيطه الشعري، تفاعل يتجاوز البعد التقني في الكتابة، والأفق الجمالي في الإبداع، إلى تجسير هوة الرؤى الإنسانية المتبادلة بين الشاعر وقارئه، الأمر الذي يسمح بتحويل القصيدة إلى نص مفتوح لقراءات على قراءات، ولتمثلات على تمثلات، ولمتع على متع. وفي هذا الجانب بالذات، تكمن أهمية البحث التاريخي المنشغل بالنبش في الآثار التي تتركها الموروثات الرمزية على نظيمة تلقي الآداب والفنون والمعارف، بما لذلك من انعكاسات واضحة على بنية تكون العناصر اللاحمة للهوية الثقافية الواحدة/المركبة، بعد أن تترك القصيدة حضن مبدعها لتتحول إلى حقل مشاع أمام المتلقي في سعيه نحو إشباع نهمه الفكري والثقافي والجمالي.
اختار الأستاذ محمد بنقدور الوهراني أسماء نصوصه «الغائبة» بدقة متناهية، استحضر فيها مستويات تفاعله مع النصوص ومع ذوات مبدعيها ومع قراءاته الفاحصة للمكونات السير ذهنية والنقدية لكل تجربة على حدى. يتعلق الأمر بسير كل من محمد الخمار الكنوني، ومحسن أخريف، وأمل الأخضر، ومصطفى اجديعة، وصلاح بوسريف، ووداد بنموسى، وفاطمة الزهراء بنيس، وسامح درويش، وعبد الكريم الطبال، وعبد اللطيف الوراري، وسعيد كوبريت، وعبد الإله المويسي، وجمال الموساوي، ومحمد مرزاق، ومحمد السكتاوي، ووفاء العمراني، ومحمد عابد، وإدريس علوش، ومحمد أحمد عدة، وإكرام عبدي، وعبد الصبور عقيل، وعبد السلام الصروخ، وأحمد هاشم الريسوني، وخالد الريسوني، ومصطفى الشليح، وعبد الرحيم الخصار، وإيمان الخطابي.
أسماء متراتبة، وتجارب مضيئة، نجح المؤلف في استلهام عطائها، لتقديم متن شيق يشكل «توثيقا» سرديا دقيقا لتحولات المشهد الشعري المغربي الراهن من زاوية أفق تلقي الناقد محمد بنقدور الوهراني. بمعنى أن العمل يقدم تفاعلا «عالما» وراصدا لتيارات الإبداع الشعري كانعكاس لرحابة الحقل الثقافي الوطني المعاصر، من خلال آثاره الباقية بالنسبة لذات الناقد ولمحيطه. وفي هذا الجانب بالذات، تبدو مجالات التاريخ الثقافي حقلا لتخصيب التجارب، ولتوسيع الرؤى، وقبل ذلك، لتوسيع رحابة تلقي عطاء القراءة الحميمية الكفيلة بتقويم العطاء وبالتأصيل للانتماء الراقي لقبيلة الشعراء ولجزيرة الشعر.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 28/06/2022