عنيبة الحمري:الصوفي يفرك الضحكات في ورشة الخيال

يحلو لأصدقائه أن يُمعنوا في رسمه بطريقة عفوية.. بالماء والخبز والورق الأبيض.. ثم يرسمون جزيرة، كما ليشيروا إلى أنه فريد للغاية وسط البشرية.. وقد يضيفون، لضرورات تواصلية، أو للتعريف بواسطة «جي. بي. اس» عاطفي، غيمة أو طائرا، وربما وحدي أحب أن أعزله مع ذلك في بقعة حبر، مضاءة، باستعارة أو بإيقاع.. لا بأس من هذا الغموض، في بداية الحديث عن رجل واضح الضحكات، يُخيل إلي في منتصف الليل، أنه يرميها في الظلمة مثل أغنية قادرة على استدراج الصمت الذي يليها أو يرميها مثل نرد لا يخيب …في إصابة خيال ليلي ! لهذا جئت لأبحث عن حظ آخر مع اللغة، اسمه محمد عنيبة الحمري، وأطرح السؤال علينا معا: هل كنتُ لأكون، لو لم أصادفه في بداهة الحياة أو متاهة اللغة؟ هل كنت لأكون لو لم تُجلجل ضحكته، طوال فرح سامر، كلما صادفته، أو كلما تذكرت أنني صادفته.
لا أعتقد، ليس بمحض المجاملة ولا بمألوف الاحتفاء! كأن شيئا ما سينقص الفرح ليكتمل. وكأن غير قليل من الأوكسجين سينقص من الهواء، وكأن شخوص حياتي سيفتقدونني الأكثر قدرة على التجرد والصفاء، ذلك الذي يبدو، وحيدا، يصدق هوية الأدب. بمعنى ثابت: حياته دليل على أن الأدب عموما، والشعر، مغامرة جدية لابد لها من الحياة لكي تستمر.… لا شيء فيه يدل على أنه خفيف: جدية القصيدة، امتثال الإيقاع إلى سلمه الشعري، تمارين الغطس في بحور اللغة، فرك المفردات في ورشة الخيال، الدخول إلى المفاجأة، ابتداء من العنوان إلى إخفاء الإيقاع في قطن المجاز…
كل شيء جدي، إلا ضحكته! تبدو ضِلِّيلة كشاعر جاهلي تائه… وتبدو أصيلة، كمكابدة غير ضرورية للصوفي.. لعله الوحيد الذي عوقب ذات سهرة، عندما منعوه من فضاء روايته من الدخول لأنه.. اجتهد في التصفيق، ولأنه أيضا يقترف قهقهات تشي بأنه ليس جديا في الندامة! لكنه أجاب عبث الحكاية بأن دخل إلى «سينترا» الرواية، حيا يتماثل قليلا للخيال!! أنا جئتكم لأنني لا أستطيع أبدا أن أحتمل خطأ الغياب عن فرحتكم به، لا أريد صراحة أن أثقل ذنبي باسمه، ولا أثقل قلبي بذنب الغياب عنه.… يحلو لي أن أعود إلى نصوصه، ولعله الذي ألهمني ذات حوار جوابا، ما كان لي أن أجترحه لو لا المرور تحت ظلال مجازه: تصبح القصيدة كائنا مستقلا، عندما تتحول إلى ذاكرة قصيدة أخرى.. وهي كل قصائده.. التي لا تعترف قصائد شعراء كثيرة بأنها ما كان لها أن تعرف ما تقوله، لو لم يستدرجها إلى مختبر البلاغة….
هل أردت، بهكذا اعتراف، القول بأن محمد عنيبة الحمري، جينة الكلمات لجيلنا.. لعلي أردت القول أيضا، بأنه الجد الوحيد الذي مازال يرافقنا إلى قصائدنا… بمرح الأحفاد!!
في الليل، عندما يتوسل الشعراء إلى الظلمة التي تمنحهم جنيات المجاز، يضيء هو بفصاحة الروح، يسهر حتى تنام الكلمات في نوتة عود، أو سولفيج قهقهة.. هكذا يخاتلنا ويخبئ لا شعور القصيدة في … واضحة الحياة!
باهظ في اللغة، حقل قصب.. عندما يريد أن يكون غامضا يقترح علينا تبين خضرة الشجرة في مساء الضباب: نشعر أن الشجر يجهش بخضرته وسط الغبش البهي الذي تخلقه هالة الخيال!! .. ومن فداحته، أننا لا نشبهه بأي كان! حقا، أستغرب أنني أجده هنا، لنا أماكننا التي نموت ونحيا فيها: اللغة مثلا، الدواوين الشعرية، الجناس، اللغة مثلا مرة أخرى،… المكان الشبيه بالخيال، هناك حيث بذَّر الشعراء الحياة القليلة التي تملكونها في الكؤوس! أستغرب حقا، أنه هنا لا غير، محاط بكتيبة من الليل وسيل من الضحكات! أصدقائي صديقاتي، لابد من عودة محمد عنيبة الحمري إلى قصيدته، وإلا سينكشف أمرنا الليلة، بأننا ننوي إفقار العالم وحرمانه من نعمة البلاغة! لا تنسوا، أنه طالبنا ذات ديوان بأن نسمي البياض.. كأي معلم «يوغا» يريدنا أن نعطي اسما للأبيض: زهرة اللوز، نسرين، شرشف، ابتسامة، غيمة،… فقط لكي لا نقول قهقهة في جوف الليل عندما نكتشف معه، أننا سهرنا إلى منتصف.. الروح لنفكر بسرعة، فنحن هدف سهل لحبه! نصف قرن ولم تصب قصيدته بأي تجاعيد، لهذا يطرح الصديق القارئ إلى حد غذى شباب القصيدة بضحكاته، وهل علينا أن نمر من الفرح إلى القصيدة أو العكس؟


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 27/12/2024