عن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية الذي يعكس ارتباط الأمازيغ بالأرض والمعتقد والتاريخ والهوية

يحتفل الشعب المغربي، إلى جانب شعوب المغرب الكبير، برأس السنة الأمازيغية في 14 يناير، حيث يتزامن ذلك مع بداية سنة أمازيغية جديدة، والمعروفة أيضا باسم «إيض يناير» أو “إض أسكاس” أو “حكوزة»، ويعكس هذا الاحتفال ارتباط الأمازيغ بتقاليد عريقة ومعتقدات تعود إلى قرون طويلة، حيث يعتقدون أن الاحتفال بهذه المناسبة يجلب السعادة والنجاح طوال العام، ويُقال إن الاحتفال يعكس تفاؤل سكان شمال إفريقيا الأصليين بموسم زراعي خصب، مما يجعل المناسبة فرصة لتجديد الأمل والاحتفاء بخصوبة الأرض ووفرة المحاصيل، وتتنوع أشكال الاحتفال بين المناطق والقبائل المختلفة، وحتى العربية منها تشارك في هذه المناسبة، مما يعكس تنوعاً ثقافياً كبيراً.
وفي المغرب، أخذ الاحتفال طابعاً رسمياً، بعد أن أمر الملك محمد السادس، السنة الماضية، «بإقرار رأس السنة الأمازيغية، عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، على غرار فاتح محرم من السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية»، كما أصدر توجيهاته إلى رئيس الحكومة قصد «اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار»، وهو من بين المطالب التي ظل الأمازيغيون يطالبون بتحقيقها منذ عقود، ومعهم الفاعلون في شتى الإطارات الحقوقية والسياسية، باعتبار الاحتفال برأس السنة الأمازيغية ليس مجرد مناسبة تقليدية، بل هو تعبير عميق عن الروابط الثقافية والهوية الأمازيغية، كما هو رمز ثقافي كذلك يعبر عن ارتباط الإنسان الأمازيغي بأرضه وجذوره.
ويذكر أنه في أعقاب خطاب أجدير الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس، في السابع عشر من أكتوبر 2001، بمنتجع أجدير، إقليم خنيفرة، عرفت الأمازيغية في المغرب محطات رئيسية أسست لمسار جديد للنهوض بهذا المكون الثقافي الهام، فيما تمثل الخطاب نقطة تحول كبرى، حيث أكد على الأهمية الاستراتيجية للأمازيغية كجزء لا يتجزأ من الهوية المغربية، داعياً إلى تعزيز مكانتها في المجالات التربوية والثقافية والاجتماعية والإعلامية، هذا التوجه تم تكريسه عبر إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الذي أوكلت إليه مهام حماية هذا التراث وتطويره، ويواجه مسار النهوض بالأمازيغية تحديات كبرى على مستوى تدريسها وكتابتها على الواجهات وإدماجها في المؤسسات.
ثم إن خطاب أجدير رسم معالم رؤية متكاملة لمستقبل المغرب، قائمة على التضامن والتلاحم والجهوية المتقدمة، حيث أكد جلالة الملك أن النهوض بالأمازيغية هو مسؤولية وطنية تستهدف تعزيز الوحدة الوطنية وإطلاق طاقات مختلف جهات المملكة، وقد تُوجت هذه الرؤية بدسترة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية، وإصدار قوانين تنظيمية لإدماجها في مختلف المؤسسات والمجالات ذات الأولوية، إلى جانب إنشاء المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، حيث نجح خطاب أجدير في تحقيق توافق إيجابي بين مختلف مكونات المجتمع المغربي، ليؤسس لمرحلة جديدة من النهضة الثقافية والحضارية.
ويذكر أن فترة الاستعمار الفرنسي للمغرب عرفت محاولات مكثفة لتفكيك البنية الثقافية والاجتماعية للشعب المغربي، ومن أبرز استراتيجيات المستعمر استهداف الأمازيغ بوصفهم بـ «البربر»، وهي كلمة ارتبطت في مخيلة المستعمر بمعاني الهمجية وقطاع الطرق، هذا التوصيف لم يكن سوى جزء من خطة أكبر تسعى إلى الهيمنة الثقافية واللغوية، بهدف خلق تبعية مستدامة تربط المغرب بالمركز الاستعماري، فيما عملت السياسات الاستعمارية على إرساء قواعد هذه التبعية من خلال وسائل مؤسساتية تهدف إلى ضرب الوحدة الوطنية التي جمعت بين مختلف مكونات الشعب المغربي، سواء كانوا أمازيغاً، عرباً، يهوداً أو سوداً.
وبالعودة إلى موضوع، احتفالات الأمازيغ برأس السنة الأمازيغية، فهو يوم يرمز إلى تاريخ طويل ومتنوع في الذاكرة الجماعية للشعوب الأمازيغية، ويتجاوز هذا الاحتفال مجرد مناسبة تقويمية، ليصبح رمزاً عميقاً يرتبط بالأرض والزراعة والتاريخ، وبذلك، نجد أن التقويم الأمازيغي يسبق التقويم الميلادي بـ 950 سنة، ما يوضح عراقة هذا النظام الزمني، حيث يعرف هذا اليوم احتفالات متنوعة في العديد من المناطق، التي تختلف طقوسها لكنها تلتقي في الاحتفاء بالأرض وثمارها، ويعتقد بعض المؤرخين أن بداية الاحتفال تعود إلى الارتباط بالأنشطة والخصوبة الزراعية التي كانت تشكل محور حياة الأمازيغ، مما جعل هذا اليوم يُعرف بـ «السنة الفلاحية.»
وهناك من المؤرخين من يستنتج أن الاحتفال بهذا اليوم يرتبط بوصول الملك الأمازيغي «شيشناق» إلى مصر القديمة، وانتصاره على الفرعون المصري «رمسيس الثاني» في معركة تاريخية جرت على أرض النيل في عام 950 قبل الميلاد، ونصب نفسه ملكا على عرش مصر بإحياء الليلة على شرف زعماء القبائل الأمازيغية آنذاك وقدم لهم أكلة (تاكلا)، وفي كل ذلك ما يهدف بالقول إن الاحتفال ليس فقط بما يرتبط بمجال الزراعة والخصوبة بل بمجال النصر الأمازيغي، وما يحمله ذلك من دلالة تاريخية على التواجد الأمازيغي في شمال إفريقيا، ومنه تم اتخاذ الحدث ليكون بداية للتقويم الأمازيغي.
وتجسيدا للارتباط بالأرض والاحتفاء بالهوية وخصوبة الطبيعة، تعتبر هذه المناسبة فرصة للاحتفاء بالعادات والتقاليد الأمازيغية، وتتميز الاحتفالات بتنوع الأطباق التي يتم تحضيرها، مثل الكسكس والمشويات، بالإضافة إلى اللباس التقليدي المميز الذي يعكس التراث الثقافي الأمازيغي، ويقوم الأمازيغ في هذا اليوم، وكما كل سنة، بتحضير أطباق تقليدية منها الكسكس المتوج مثلا ب «سبع خضار وفواكه جافة وبيض مسلوق»، على أن يكون الأوفر حظا من يعثر على «حبة تمر» في قلب الطبق، قبل انتهاء الحفل بتجديد التهاني بين الجميع وتبادل المتمنيات بعبارات «أسكاس أماينو» و»أسكاس أمباركي» و»أسكاس إغودان» حسب اللهجات التي ينحدرون منها.
وحسب الجهات والمناطق، تحضر أطباق أخرى خاصة للاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة، حيث يتجمع الأهل حول مائدة غنية بأطباق تقليدية تحمل رموزاً ثقافية متوارثة، فإلى جانب «كسكس التمرة» بالأطلس المتوسط، يتم في الجنوب المغربي مثلا إعداد طبق «تاكلا»، وهي عصيدة مصنوعة من دقيق الذرة المطبوخ مع العسل والسمن أو زيت أركان، بينما في مناطق أخرى يتم تقديم حساء «بركوكش»، الذي تعده النسوة بعناية من معجنات صغيرة مكورة، وكل الأطباق التقليدية تكون جزءا من طقوس اجتماعية ممتعة، كما تُقدم الفواكه الجافة والمكسرات على المائدة كرمز للطابع الزراعي الذي يشكل جزءا أصيلا من الثقافة الأمازيغية.
وكما تتميز السنة الأمازيغية «إيض إيناير» بتنوع العادات والتقاليد التي تختلف من منطقة إلى أخرى، والتي تحمل طقوسا احتفالية فريدة تعكس التنوع الثقافي الكبير الذي يتمتع به الأمازيغ، حيث تتميز الاحتفالات الليلية بجل المناطق بتمازج أصوات الأغاني الأمازيغية والرقصات الفولكلورية، لتشكل مشهدًا نابضا بالحياة، كما تبرز طقوس الذبح الجماعي للدواجن كإشارة رمزية لتكريم الحياة وتجديد العهود مع الطبيعة، والحفاظ على جوهر الجسر الممتد بين الماضي والحاضر، بعادات وتقاليد عريقة تمتد عبر الأجيال، ولا يقتصر الاحتفال على الطعام فقط ببعض المناطق، بل يمتد ليشمل عادات أخرى، منها قيام الأطفال بوضع الحناء في أيديهم تعبيراً عن فرحتهم.
وفي هذا الصدد، فات للباحث في مركز الدراسات التاريخية والبيئية، التابع للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ذ. المحفوظ أسمهري، أن أكد «أن طقوس الاحتفال بالسنة الأمازيغية أصبحت حاضرة في مختلف جهات المملكة»، مبرزا أنه «أمام صعوبة جرد كل أنواع الطقوس عبر مختلف جهات المغرب، من المهم التفكير في إصدار كتيب يوثق لهذه الطقوس في مختلف الجهات الفلاحية، بالنظر إلى أن الخصوصيات الفلاحية للجهات لها تأثير على طبيعة الأكلات وما يصاحبها من عادات وتقاليد»، ليخلص الباحث إلى أن إقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية لا يمكنه إلا أن يعزز الاعتراف الرسمي والمؤسساتي بالثقافة الأمازيغية كمكون عريق للثقافة المغربية.
ولم يفت المحفوظ أسمهري القول أيضا بأن الاحتفالات برأس السنة الأمازيغية من شأنها «تعزيز البعد الأمازيغي في الثقافة الوطنية المتعددة الروافد»، مبرزا أنه «من الطبيعي أن نلاحظ ظهور أشكال جديدة غير مألوفة من قبل ضمن طقوس الاحتفال بهذه المناسبة، خصوصا في المدن، ومع ذلك نسجل أن هناك حرصا على الحفاظ على التقاليد الموروثة، خاصة الأكلات التقليدية”، فيما شدد أسمهري على «أن المحافظة على أي موروث كيفما كانت طبيعته تقتضي أولا الوعي بأهميته لصون الذاكرة التاريخية الجماعية، ومن أهم طرق المحافظة على هذا الموروث توثيقه لضمان استمراريته».
وكم صمد الأمازيغ في وجه كل السياسات والمواقف المعادية لهم، واستمروا في الحفاظ على هويتهم الثقافية واللغوية، ويُعرفون بتنوعهم الغني في شمال إفريقيا، حيث يتحدثون لغات أمازيغية متعددة ويستخدمون الحروف القديمة «تيفناغ» في الكتابة، مما يعكس ارتباطهم العميق بجذورهم التاريخية والثقافية، فيما يواجه الاحتفال بالسنة الأمازيغية تحديات تهدد استمرارها، ومن ذلك تأثير العولمة التي ساهمت في تراجع بعض العادات والتقاليد، إلى جانب غياب التوثيق الرسمي في بعض المناطق، مما قد يؤدي إلى ضياع تفاصيل تاريخية مهمة لهذه المناسبة، وضمان انتقالها للأجيال القادمة كجزء من الإرث الثقافي المشترك.


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 14/01/2025