عن الجسد الروحي

إن التخلي عن الجسد المادي بالوفاة لَيكشفُ للحياة الجديدة عن وجود الجسد الروحي،
ويكشف في اللحظة نفسها عن المستوى الروحي للحياة الطبيعية، ويعطيها المظهر ذاته الخاضع للنظر والإحساس. فالجسم من حيث هو مُرَكَّبٌ فيزيولوجي خاضعٌ لنظام الحاجة التي تعمل فيه لإشباع الضرورة وتحصيلها. أما الجسد فهو نظام رغبة وإمكانٌ جمالي وتشوف رؤيوي، تعمل فيه الرغبة لإشباع الحرية، ومن ثمة كان حقلا للحرية بامتياز،لأنه ينتزع الوجود الإنساني من الضرورة التي يفرضها نظام الحاجة على الجسم، ويضعه في أفق الفن والجمال والإبداع والخيال الذي هو حضرة الحضرات ـ حسب ابن عربي ـ . فتصور الجسد خارج التحام الرغبة بالحرية هو تصور للجسم أي للضرورة، والضرورة نقيضٌ للرغبة والحرية.
فالجسد بهذا المعنى الصوفي الفلسفي يُحرر الوجود الإنساني من كل شكل ناجز، ويجعله نَزَّاعًا إلى ما لم يحصل بعدُ، ولذلك كان متعددا، فهو أجساد: جسد الكائن، جسد النور، جسد اللون، جسد العطر، جسد الماء، جسد الهواء، جسد النبض، جسد الحب، جسد المعنى، جسد الشكل،جسد الروح….وهكذا.
وإذن؛
فالإنسانية جسد لا جسمٌ، منه تبدأ بوصفه نظامَ رغبة لا نظامَ حاجة، وتنطلق في تحرر دائم للابتكار والإبداع وتجديد أسلوب style حياتها الخاص وعلى أساس بُعدها الفردي في الوجود.
وما ليل الجسد إلا أقنعة الضرورة التي تتغيا تحويله إلى جسم خاضع منحرفٍ عن أفق ابتكار وجوده.
إن الجسد الروحي حقيقة كشفتها أوليات الفيزياء الحديثة، حيث حلت مشكلة،(موقع عالم الروح)، وبينت التداخل الموجود بين هذا العالم وبين عالم المادة.
وقد جرت عادة الإناسيين والسوسيولوجيين وغيرهم من علماء الإنسانيات على الحديث عن الإنسان البدائي، والإنسان الصانع، والإنسان العاقل، والإنسان الصحيح Homme parfait، والإنسان الشامل  Homme universel ، وما إلى ذلك من التسميات التي أطلقتها الثقافات النابتة في حقول ذات مرجعيات مادية صرف، والتي تنظر إلى الإنسان على أنه مجموعة رغبات مادية ،وكيانٌ فسيولوجي لا غير، وبذلك بترت وجدانه، وأبعدته عن جذوره الروحية الكونية التي هي أصل إلهي فيه {ونفختُ فيه من روحي } (الحجر/الآية 29).فإنسان هذه الثقافات أرضيٌّ مقطوع الصلة بالسماء، يعتقد أنه لا حاجة له بها، ولا موجب لتبادل الاعتراف معها بالوجود، ما دام هو المركز في تصوره.
أما الثقافة ذات المنظومة الروحة، والنابتة في أرض مرجعيتها الدين فإنها تنظر إلى الإنسان ككائن سماوي  ↔ أرضي، تجتمع فيه فضائل الكون العلوي والسفلي باعتباره المخلوقَ بيد الله على صورة اسم «الله»، والمنفوحَ فيه من روح الله. ومن هنا كانت أفضليته على كل المخلوقات، وكان تكريم الله له. فهو إذن كامل بالأصالة، والنقص فيه عارض، والعارض هو الكمال.
فالإنسان ذو الجسد الروحي هو الذي تجسد فيه العالم الأكبر، فاستحق أن يحمل أمانة الكون.


الكاتب : أحمد بلحاج آية وارهام

  

بتاريخ : 01/12/2022