عن الحداثة في الشعر .. الشعري والأسطوري

 

كيف يتأسس البعد الأسطوري في الكتابة الشعرية ..؟ ذلك هو السؤال الذي تحاول هذه الورقة الإجابة عنه . وبدءا نشير بشكل حاسم الى أن ثمة مستويين لا ينبغي الخلط بينهما ، المستوى الأول وهو الحديث عن «توظيف» الأسطورة في القصيدة الشعرية كأحد تعاقدات البنى التناصية كما يجلي ذلك حاتم الصكر في مؤلفه النقدي الهام «مرايا نرسيس «، أما المستوى الثاني فهو «الوعي» بالأسطوري في الشعر كـ «كتابة» نسقية تأسيسية كما يمكن أن نقرأ ذلك في الأطروحة الشيقة «الأسطوري في شعر محمد عفيفي مطر» لضحى المصعبي من تونس.. وفي ما بين المستويين مسافة كبيرة ومفصلية .

يلتجئ شعراء كثيرون إلى توظيف الأسطورة / الأساطير في قصائدهم . إن هذا الصنيع لا يختلف مبدئيا عن أي توظيف آخر مثل توظيف الطبيعة أو التاريخ أو الحكاية الشعبية أو الخطابات الغيرية الأخرى المقتطفة من سجلات أجناسية مختلفة ، وحضور الأسطورة بهذا الشكل يحتل موقعه في تشييد المكونات الدلالية للموضوع الذي يود الشاعر أن يعبر عنه . وقد عرف الشعر العربي المعاصر هذا التوجه ، وانكفأ الشعراء بشكل مكثف على المتن الأساطيري يستدرجونه في بناء الموضوع وفي تلوين المعنى الشعري بمجازات الاسترفاد من المرجعية الأساطيرية من جلجامش الى سيزيف .
وإذ يتم استحضار الأسطورة بهذه الصيغة ، فانه يمكن القول بأن هذا الحضور لا يخرج عن باب صنعة التناص، وهي صنعة مشاعة ، وبإمكان أيما شاعر أن يفتح صفحة ما من صفحات «معجم الرموز» حول الميثولوجيا العالمية ليقتبس منها ما يشاء، ويجعل هذا الاقتباس ذريعة لتشييد مقول شعري يتماس مع الأسطورة ، ويتخذها وسيلة للتعبير عن الفكرة المقصود تبليغها .
قبل أن نبرز موقفنا النقدي من هذا التوجه الحداثي في الشعر العربي المعاصر، نستسمح القارئ في الاستشهاد بموقف نقدي هام للناقد إحسان عباس إزاء هذه الظاهرة يقول فيه : «ومع أن هذا الاندفاع نحو الأسطورة المستعارة كان ذا نتائج ايجابية ، فقد علقت به بعض النتائج السلبية ، إذ أخذت الأساطير أحيانا و أقسرت على الدخول في بناء القصيدة ، دون تمثل لها ولأبعادها ، فوضح أنها دخيلة قلقة في موضعها ، أو أنها جاءت أحيانا لا تؤدي سوى وظيفة تفسيرية توضيحية ، شأنها في ذلك شأن كثير من التشبيه في الشعر القديم . وأحيانا كان رص نماذج منها في نطاق واحد لا يقدم سوى الشهادة على الدرجة الثقافية للشاعر . ولذلك قلما ينبض الرمز بالحياة وتتشعب عروقها به ، في شعر الشاعر ، إذ ما يكاد الشاعر يستخدم رمزا في قصيدة ما ، حتى يقفز إلى رمز آخر في قصيدة أخرى، دون أن يكون ذلك رغبة في تنويع الدلالات أو حرصا على تكييف المبنى . بل لعلي لا أتجنى حين أقول أن الشاعر الحديث قد اقتصر في استعمال هذه الرموز – رغم كثرتها – على دلالات محدودة ، مما وسم الشعر بطابع التقارب والتكرار. « (1) .
ويمكن لنا ، انطلاقا من هذا النص النقدي ، أن نظهر الخلل الكامن في هذه الظاهرة الشعرية ، وهو خلل ناتج عما أسمح لنفسي بتسميته ب «مبدأ التناقض الداخلي» في توظيف الأسطورة ، بحيث يصير حضورها يشتغل على نفي الأسطوري ، ويؤدي في النهاية إلــــى لا أسطورية الكتابة الشعرية .. أولا لأن الأمر يتعلق ب «الأسطورة المستعارة» ، لكن الأسطوري في الشعر لا يستعار ، لأنه يؤدي – كما هو واضح في النص أعلاه – إلى الاجترار والتشابه والتكرار ، أي إلى نفي الإبداعية الشعرية كفعل متجدد ، وبالتالي إلى نفي الكتابة الشعرية كفعل أسطوري تأسيسي يعيد في كل آن خلق الذات والعالم في رؤى استشرافية احتمالية جديدة موسومة بطابع البدء و العودة بالكلمة الشعرية الي ينابيعها الأسطورية الأولى كما يتضح في سياقات عميقة من أعمال كارل يونغ و مارسيا الياد ولدى جون برغوس في حديثه عن الوظيفة الأسطورية من كتابه «من أجل شعرية للمتخيل» ، اضافة الى اجتهادات سعيد الغانمي المائزة في كتابه» فاعلية الخيال الأدبي» .
وثانيا لأن حضور الأسطورة في هذا التوجه، هو حضور أداتي، أو قل هو حضور استعمالي غير محايث داخليا للفعل الشعري ، بل يولد وجوده داخل النص شرخا وانفصالا عميقا بين المعنى الشعري والمعنى الأسطوري . إن حضور الأسطورة في هذا السياق يتم من خلال وعي معقلن . وهو نزوع عقلاني يؤكد الانفصال بين عالم الواقع وعالم الأسطورة ، وبين الفعل الشعري والفعل الأسطوري . إن استحضاره للأسطورة يفتقد للإنتاجية الطبيعية للأسطورة التي تقوم على توحد وانصهار الفعل بالكلمة ، ليظل مجرد إنتاجية حرفية صرفة ، يتم من داخلها توظيف الأسطورة للشرح والتفسير والقياس و المشابهة، إنها قول يضاعف النص عبر التشابه والتكرار بدل أن يهب للقول الشعري وحدته المطلقة وتناغمه الداخلي وانسجامه الكلي حيث لا حدود فاصلة بين الفعل / الأنا الشعري وبين الكلمة / العالم.
في أحد حواراته الكثيرة صرح الشاعر بلند الحيدري لمجلة اليوم السابع قائلا «كلنا خرجنا من معطف السياب» . وعلى الرغم بأنه لا ينبغي الأخذ بمطلق هذا القول، فإنه يحتمل قدرا من الصحة ينسحب على شعراء كثيرين . ويظهر هذا بالخصوص حين يكون الحديث دائرا حول الموضوع الذي نتحدث عنه .
فإذا تركنا دور انفتاح الشعراء العرب علي الشعر الغربي وتأثير المراجع الأجنبية ، فانه يمكن القول بأن الكتابة الشعرية عند السياب ذات بعد أسطوري ، وبأن الفعل الشعري لديه هو فعل أسطوري بشكل جذري ، ليس لأنه وظف أساطير معينة في شعره ، بل لأنه أسس لكتابة شعرية جديدة ، متحررة من التماهي بنماذج سابقة، ولم يكتب وهو يقتفي نموذجا شعريا جاهزا، بل جعل تجربته في الحياة تتشكل بشكل محايث لنشأة وتشكل عالم شعري جديد يرسم كما يقول جلبير دوران مناخا أو فضاء أساطيريا ، فكان الفعل الشعري لديه ابتكاريا، تدشينيا ، متحررا من سلطة التقليد ، ومن اجترار الذاكرة الشعبية للسياق الثقافي والتاريخي لعصره . ففي الشعر يتزامن تجذير البعد الأسطوري في الشعر بقدرة المبدع على تأسيس أسطورته الشخصية ، حين يجعل كلمته الشعرية أولية قيد التسمية تسمي ذاتها في تخلقها وولادتها ، وفي كونها تعبيرا عن حضور تدشيني ، ينشأ بقتل النموذج / الأب ، وبالولادة فيما وراء الموت والنسيان والخراب .
كتب ناقد مهتم بالرواية أكثر من اهتمامه بالشعر ، وهو ميخائيل باختين يقول : « إن كل ما يدخل في العمل الشعري، عليه أن يغرق في مياه نهر «ليتي» (Léthé) . ، وأن ينسى حياته السابقة داخل سياقات الآخرين : يجب على اللغة أن تتذكر فقط حياتها ضمن السياقات الشعرية « (2) . ونهر «ليتي» في الميثولوجيا الإغريقية هو مرادف للنسيان ، كل من شرب ماءه ينجح في أن ينسى . وعن هذه اللغة الشعرية التأسيسية ذات العمق الأسطوري يقوم أيضا : «في التشخيص الشعري بمعناه الصارم (الصورة – الاستعارة) يجري كل الفعل (دينامية الكلمة – الصورة) ما بين الكلمة والموضوع (في جميع مظاهرهما) . فالكلمة تنساب داخل الغنى الذي لا ينفد .. وداخل طبيعته التي لا تزال «بكرا» وغير مكتشفة.» (3).
لعل شاعرا مثل أبي تمام أدرك في سياق متقدم جدا مثل هذا النزوع وجسده مليا في شعره ، مثلما أبرزه في موقفه من الذاكرة الشعرية في الحكاية المشهورة مع شاعر معاصر له وهو البحتري . إن هذا الموقف يتجدد دائما ، ذلك لأن الوعي بالفعل الشعري كفعل أسطوري ، والنظر إلى الكتابة الشعرية ككتابة حاملة لمظهر أسطوري واعية به ، ومتمثلة له ، لا يحصل إلا في التجارب الشعرية الاستثنائية التي تروم نحو الانسلاخ من المعيارية والتقليد والقول المعاد المكرور .
إن الوعي بالبعد الأسطوري في الشعر، بالمعنى الثاني الذي أشرنا إليه ، يقودنا إلى وعي شعري ونقدي جذري بمفهوم «الكتابة» (Ecriture) فمفهوم «الكتابة» يتأسس حين تنصهر التجربة أو الفعل بالقول الشعري ، وحين تكون شعرية الشعر غير مفهومية وغير ناتجة عن استعادة لأنساق ثقافية أو شعرية سابقة و غير مفهومية خاضعة لسلطة التقعيد ، ذلك لأن الكتابة فعل استكشافي، وكل نص شعري لا ينهض على أسطرة التجربة وإعادة بناء وخلق العالم وأشيائه من منظور جديد وغير مسبوق، لا يمكن اعتباره كتابة تستغور القوى الدينامية للخيال ورمزيات التأسيس الأسطوري كما أعرب عنها أرنست كاسرير في الكثير من كتبه حول دراسة العلاقة بين الأسطورة و الخيال الإبداعي، بل هو فعل محاكاتي ، ذلك أن الكتابة الشعرية كنص تستنير بشموسها وأنوارها النابعة منها، إنها ليست كوكبا يستعير ضوءه من شموس غاربة، أو موقدا يلتهب يحطب الآخرين ، أو جسدا تنبض فيه دماء غريبة عنه .
وينطوي البعد الأسطوري في الكتابة الشعرية على استعادة دائمة لنزوع إنساني يمكن أن نصفه بأنه «طقس تطهيري» ، ذلك أن المبدع يرغب في أن تكون كلمته مشعة بنقاء خالص، حتى وهي تحاذي كلمات أجنبية عنها أو تتفاعل معها في سياق حواري أو تناصي، وأن تكون القصيدة الشعرية كذلك فأنها تظهر على الدوام في حالة تسامي وفي توق إلى التحرر من كل قيد خارجي عنها .
وكأنه آدم في جنته يكتشف طراوة أشياء العالم، ويلقي بكلمته الأولى في عالم من البراءة الخالصة ، لذا تظل الكتابة في عمقها توقا إلى هذا المشهد البدئي ، إنها تسعى للتحرر من أسر الذاكرة ومن تاريخ المفهوم ومن تكلس الزمن وتوقفه ، ومن ثمة ينصهر البعد الأسطوري في الكتابة الشعرية بالسعي العارم لدى الشاعر في تأسيس زمنه الخاص ، ومطلقه الخاص ، في العودة الأبدية إلى ما يسميه مارسيا إلياد بـ «زمن البدايات» (4) ، أو إدوار الخراط بـ «الزمن الآخر»، حيث تولد الأنا من غيريتها ، وحيث يتشكل الواقع كحلم لا نهائي ، في انهيار الأشياء وإعادة تخلقها ، في جدلية الموت / الحياة .
وتأسيسا على القول السابق، فإن أيما شعر حداثي يحتاج بشكل ضروري لهذا البعد الأسطوري، حيث نفهم هذا البحث بما هو رؤيا مستقبلية ترفض الاتباعية والتقليد وكل وعي حداثي موهوم وقائم على الاستنتاخ والنمذجة .
الكتابة الشعرية في جوهريتها كنزوع أسطوري تهدم أقنومات الحداثة المدرسية ، يقول البياتي في هذا الشأن : «إن المدارس الكبيرة لا تنجب بالضرورة شعراء كبارا . بل الشعراء الكبار يخرجون من معاطفها أو من نوافذها، إذا دخلوا من أبوابها، ثم لا يلبثون أن يتجاوزها . فالحياة خلق وولادة مستمرة للحداثة ، والحداثة هي عملية اختراق مستمرة للكينونة والمستقبل « (5) .
ولا يمكن في نظري لمفهوم «الكتابة الشعرية» أن يكتسب دلالته الجوهرية وتعريفه المتأصل لدى الشاعر إلا عندما يتصل بمكنة الشاعر ذاته في أن يجعل فعله الشعري تأسيسا لأسطورته الشخصية ، وفي هذا المستوى بالذات تكمن حقيقة الإبداع ، ويكون في استطاعته أن يحمل وينجب أسئلته الخاصة ، ورؤاه الجمالية ، وموقفه الفكري والنظري .
إنه في هذه الحالة يخلق وعيه الخاص بالحداثة بما هي سؤال متجدد، وهذا على عكس ما يحصل لدى الشعراء حين يلجؤون إلى التوظيف الأداتي للأساطير انطلاقا من موقف تقليدي يعتقد أن تنميق القصيدة بشتى الإحالات الأسطورية هو مظهر من مظاهر حداثة الإبداع الشعري .. « إن تحويل الحداثة ذاتها إلى معيار للإبداع يعني في الواقع فقدان أي معيار وتفسير الشيء بذاته ، وهي لا يمكن أن تعني في النهاية إلا القدرة على استنساخ آخر ما يظهر في الغرب، مصدر التجديد والتحديث … وهذا لا يعني قتل أساس الإبداعية فقط ، ونعني به الذاتية، ذاتية المبدع وذاتية الجماعة التي يأخذ العمل الفني قيمته منها ، ولكن يعني أيضا قتل الإبداع ذاته « كما يرى د . برهان غليون (6) .
عرف الشعر الانجليزي في العصر الحديث ميلا عارما نحو استلهام الأساطير ، وكذلك الشأن في الرومنطيقية الألمانية والفرنسية، والواقع أن الشعر العربي لم يستلهم الروح الألمانية لأسباب تاريخية وسياسية ، ولكن كل الأثر وفد عليه من تأثير الشعر الانجليزي والرومنطيقية الفرنسية وهما معا جنحا إلى استلهام الأساطير انطلاقا من إحساس قوي بأن الإنسان المعاصر قد راح تحت تأثير التمدن والوعي الصناعي يبتعد عن الطبيعة وعن عالم الروح ، وهو شيء نلمسه بوضوح لدى مبدعين وشعراء عرب لم نقراهم جيدا مثل شعراء مدرسة أبولو، وشعراء الرابطة القلمية أو المدرسة المهجرية ، وبالخصوص لدى شاعر فذ وهو جبران خليل جبران .
الآن لم تعد مشكلتنا هي مشكلة التمدن ، ولكن مشكلة الإنسان العربي راهنا هي التاريخ والذاكرة والهوية والثقافة ، وهي أشياء لم يحسم الأمر فيها نهائيا في سياق واقع استعماري خالص ، سواء كان مباشرا أو غير مباشر .. لذا يمكن القول بأن البعد الأسطوري المحتمل لكل كتابة شعرية عربية راهنة يكمن في قدرتها على إعادة التفكير في هذه المكونات، وفي القدرة على تأسيس وعي ضدي نقيض يفك علاقات الأسر أو الفقدان أو المحو التي تربطنا بقضايا الهوية والتاريخ والذاكرة والثقافة . ومن ثمة فإن حياة الشعر (والإبداع عموما) لن تنتهي ، بل هي في كل لحظة ستظل مقيدة إلى المشاريع التأسيسية .. إلى هذا النزوع التطهيري الأسطوري في إعادة تشكيل هذه المكونات وصهرها بالتجربة الفردية والجماعية ، وفي تدمير الأسطوريات القديمة التي فقدت بريقها ولمعانها وطبيعتها الحية والجوهرية وتحولت إلى أنساق تقليدية جامدة ، وأيضا في تدمير الأجوبة البالية ، والذهاب نحو الأسئلة البكر ، تلك الأسئلة البدئية القلقة والمتحفزة إلى المستقبل .

هوامش:

1) إحسان عباس : «اتجاهات الشعر العربي المعاصر» عالم المعرفة فبراير 1978 . العدد 2 : ص 166-167 .
2) Mikhaïl Baktine : « Esthétique et théorie du roman » Gallimard.1978.P118
3) – نفس المرجع السابق . ص 101 .
4) Mircea Eliade : « Le sacré et le profane » : Gallimard . 1965 . p 84 .
5) عبد الوهاب البياتي / محيي الدين صبحي : «البحث عن ينابيع الشعر والرؤيا» دار الطليعة ، بيروت – 1990 . ص 78 .
6) د. برهان غليون : «اغتيال العقل» محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية . دار التنوير . 1987 . ص 282 .


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 05/07/2024