المسكوت الذي أحبّ النبش فيه قليلا في هذه الكلمة ، يتعلق باليابوري الآخر الكامن خلف اليابوري الناقد الباحث والأستاذ الجامعي المتمرّس.أعني اليابوري الأديب المبدع المتواري في حديقته الخلفية والذي جنحت به جدّية الضمير الأدبي عن هاجسه الإبداعي الدفين، فأفنى زهرة عمره في رعاية ودراسة الإبداع المغربي الحديث، وبخاصة منه القصة المغربية والرواية المغربية في لحظة تاريخية مبكّرة وحساسة، كانت فيها القصة والرواية من بِدع الأدب والعصر، أيْ من بشائر الحداثة، كما كان المغرب يُصنّف فيها كهامش أو ذيل وتكْملة للمركز المشرقي ، تكريسا للمقولة التاريخية للصاحب بن عباد «بضاعتنا رُدّت إلينا « .
وبهذه النّخوة الثقافية – النقدية المغربية، وضع اليابوري حجر الأساس للنقد القصصي والروائي في المغرب رفقة رصيفه ومُجايله محمد برادة ، وكانت له الريادة المبكرة في هذا المجال .
كما أعطى بهذه الريادة النقدية إشارة الضوء الأخضر لأجيال القاصّين والروائيين المغاربة ليخوضوا غمار السرد . وبقي عن سبق إصرار مُتمترسا في خندق البحث والنقد لا يريم.. مؤثِرا الجلوس في الصفّ الخلفي مراقبا ومواكبا المشهد الأدبي بدل الصفوف الأمامية المُغرية . وهذا هو سؤال هذه الكلمة – الشهادة .
والذي يحْدوني إلى هذا الكلام، سوانح وإشراقات أدبية وجدانية خطّتها يراعة اليابوري بشفافية ورهافة وانبجست من وجدانه وفكره رخيّة ندية بماء الإبداع، وهو يستعيد أمشاجا وأطيافا من ذاكرته، في سيرته الذاتية الفكرية ( ذاكرة مُستعادة عبر أصوات ومنظورات) .
وأسوق هنا تمثيلا هذه الفقرة المشعة من سيرته وهو يتحدث على هامش مشاركته الشهيرة والجهيرة في مناظرة إيفران عن قضايا التعليم أواخر السبعينات :
«مدينة إيفران في هذا الصباح الباكر مَكسوة بالثلوج التي تجمعت نُدف منها فوق نوافذ الفندق، وفوق الأشجار، والسيارات . قررتُ أن أتجول وحيدا في هذا الجو البارد .
فقمتُ بجولة كاملة وسط المدينة . هل هذا خوف؟ أو شجاعة أو تهوّر؟ لست أدري ، لكني كنت أشعر أن حركتي تؤكد وجودي . كل شيء كان بسيطا وساذجا وتلقائيا على مستوى الشعور، لكن كل شيء كان معقدا ومُخاتلا على مستوى اللاّشعور، بمعنى أن شيئا ما بداخلي كان يأمرني بأن أفعل ما فعلت ، فاستجبت لطلبه، لأنه خلَجة من كياني، وصوت نابع من أعماقي . « 1 .ص 74
في هذه السيرة المحفلية يكتشف القارئ اليابوري المبدع الكامن خلف اليابوري الناقد والباحث، ويُحسّ كم هو رائق وجميل ذلك المسكوت الأدبي – الإبداعي الذي مارس عليه اليابوري حجرا وحصارا ووأده في مهده، وكأنّ اليابوري الناقد بصرامته النقدية المعروفة، كان بالمرصاد لليابوري الأديب المبدع ، فأوقفه عند حدّه، غافلا أو متغافلا أنّ في إهابه يكمن قاص وروائي وشاعر موقوف التنفيذ، خلافا لبعض رفاق جيله وطلبته من النقاد الذين ازْورّوا عن النقد وركضوا سراعا وتباعا صوب السرد .
وأنْ تحكيَ وتقصّ وتروي، في ما يبدو، أسلم لك وأغنم من أن تنقد وتُسائل وتجرّ عليك المشاكل .
وأفخرُ بالمناسبة أنّي من قدماء طلبة ومريدي أحمد اليابوري منذ سنوات التحصيل الجامعي الأولى الجميلة واليانعة في رحاب كلية الآداب – ظهر المهراز بفاس في أواسط الستينيات من القرن الفارط . وقد سار المُريد على خُطى شيخه، فانتقلتُ على حين غرّة من مُغازلة القصة القصيرة إلى نقد القصة القصيرة .
وأبقى مع مسكوت اليابوري وهو رجل الصمت الحكيم إلاّ إذا جدّ الجد ورُفع الهزل لأقول، قليل من انتبه إلى المبدع الساكن في أطْواء اليابوري .
وشخصيا بدَا لي حسّه الإبداعي مبكرا منذ اختياره القصة المغربية موضوعا لبحثه الجامعي الرائد «تطور الفن القصصي في المغرب» .
بدا لي كأنّ قاصا ساكنا في هذا الرجل، انفلت على حين غفلة إلى أجواء النقد والبحث الجامعي .
واختيار المرء كما قال الجاحظ ، قطعة من نفسه .
وللإشارة ، فقد استهلّ اليابوري يفاعته الأدبية قاصّا وقارضا للأشعار، على أعمدة الصحف الأولى التي كان ينْتجعها، وفي ذاكرته المستعادة نماذج من إشراقاته الشعرية المبكرة الكاشفة عن وعوده وأشواقه الإبداعية .
ولعلّي أجد تعلّة وتبريرا لمسْكوت اليابوري الإبداعي، في مزاجه اللغوي – المفكّرفيه ، أو بالأحرى في « اقتصاده « اللغوي الذي جُبل عليه .
والأسلوب على أيّ هو الشخص كما قال بوفون . لكن أعذبَ الشعر أكذبُه ، كما قال سلفنا النقدي .
وعلى امتداد مساره الادبي، لم يكن اليابوري مِهذارا ثرثارا على شاكلة معظم الأدباء ، بل كان مقتصدا – متّئدا في مُنجزه الأدبي .
كان الاقتصاد في الإنتاج والكتابة، دليلا على « احترام « الكتابة وتجنّب الاستسهال والإسهال الأدبيين، مثله في ذلك مثل رفيقه الجامعي السوري الشاعرالعالم أمجدالطرابلسي .
هؤلاء يؤلفون أجيالا وعقولا، قبل أن يصنّفوا كتبا وفُصولا . يؤلفون كتائب ثقافية قبل الكتب الثقافية، ولا يصنع هذا إلّا الكبار .
ولا أملك أخيرا إلا أن أقتصد في الكلام، سيرا على نهج هؤلاء الكبار .
تحية تقدير واحترام للناقد الرائد أحمد اليابوري .
إحالة:
1- أحمد اليابوري / ذاكرة مستعادة عبر أصوات ومنظورات . ط 1 .2014 . مكتبة المدارس – البيضاء . ص74
( ألقيت هذه الكلمة في تكريم الناقد أحمد اليابوري بمؤسسةأبي بكر القادري للفكر والثقافة يوم 10/11/ 2022)