عن رولان بارت بالرباط «العابر المحترف» والسائح المتنقل بين الشرق والغرب

 

توطئة :

صدر عن منشورات دار توبقال
(2024) مؤلف تحت عنوان « رولان بارت في المغرب» لكاتبه المعطي قبال (1 ). يقع الكتاب في مئة واثني عشرة صفحة من الحجم المتوسط . تتمثل أهمية المؤلف وجِدَّته، في نظرنا، في أن كاتبه حاول، قدر الإمكان ، إماطة اللثام عن شخص رولان بارت– الإنسان. رولان بارت «العابر المحترف» والسائح المتنقل بين الشرق ( اليابان ومصر والصين ) والغرب الإسلامي ( تونس والمغرب والجزائر) وجنوب المتوسط ( إسبانيا وإيطاليا واليونان) وأوروبا الشيوعية آنذاك (رومانيا) . رولان بارت المستنفر والمستفز للعلامات، في بعدها الجواني، والساقط في شراك غواياتها ( ص 11) . كما كشف الكاتب عن بعض مواقع الظل في حياة رولان بارت التي تطرح العديد من الأسئلة المرتبطة بحياته الخاصة .
أسئلة لم تصدر، حولها، إجابات تذكر، ربما بسبب اعتبار البعض لها هامشية مقارنة بقيمة الرجل الفكرية والنظرية. أسئلة – تساؤلات من قبيل :
كيف كانت علاقة رولان بارت باليسار المغربي خلال أواخر الستينات وبداية
السبعينات ، من القرن الماضي ؟
هل كانت لرولان بارت علاقته بهيئة المتعاونين الفرنسيين بالمغرب
Les cooperants وباليهود المغاربة، وبالكتاب العالميين الذين اختاروا المغرب ملاذا عاطفيا  وفنيا ( خوان غويتوصلو وسوزان سونتاغ وجون جنيه وبول بولز ترومان كابول وتينيسي وليامز ووليام بوروز …….الخ ؟ .
هل كان رولان بارت قارئا للأدب العربي عامة، والمغربي خاصة ؟
هل استطاعت الترجمات العربية أن تقربنا من أفكار بارت وتصوراته ؟
هل يمكن اعتبار رولان بارت مستشرقا ؟
كيف استقبل أطر الجامعة المغربية رولان بارت ؟

رولان بارت الوافد
على الرباط

إذا كانت إقامة رولان بارت بالمغرب، كأستاذ جامعي ( 1969 – 1972) إقامة سبقتها سلسلة من الزيارات المتقطعة ( 1960 و 1964 و 1965 ) كما اعقبتها زيارة سنة 1977 ، فإنها تبقى محطات تاريخية لم نقرأ عنها إلا النزر القليل ، مما حال وتمثل درجة تفاعل رولان بارت مع فضاء المغرب والرباط تحديدا، على خلاف الأمر بالنسبة لإقامته غير الطويلة باليابان التي توجت، كما هو معروف، بإصدار مؤلف ( امبراطورية العلامات ) .
يقف المعطي قبال على هذه المرحلة، من حياة رولان بارت، ساعيا إلى رفع بعض اللبس والغموض عنها من خلال استجواب أحد تلامذته الذي كان على اتصال دائم به خلال هذه الفترة : ذ . عبدالله بونفور .

-رولان بارت أستاذا بجامعة محمد الخامس1969- 1971
حل رولان بارت بالرباط كأستاذ بجامعة محمد الخامس ( كلية الآداب شعبة الأدب الفرنسي ) بدءا من فبراير 1969 وذلك بدعوة من زغلول مرسي الذي كان يشغل، آنئذ ، رئيسا لشعبة الأدب الفرنسي ، وباقتراح من عبد الكبير الخطيبي ، الذي عاد له الفضل في ربط أواصر الصداقة بين الرجلين .

– سياق مغربي يتسم بالاحتقان والرغبة في التغيير
طبعت الفترة الزمنية التي قضاها رولان بارت بالمغرب ( سنتين والنصف تقريبا ) بفوران وغليان سياسيي – أيديولوجي، كانت من مظاهره نشأة وزارة الثقافة، وصدور العدد الأول من الملحق الثقافي ليومية العلم ، وانقلاب 1971 ونشأة الجمعية المغربية للبحث والتبادل ذات التوجه الأمازيغي، وصدور مجلات طلائعية كأنفاس ولاماليف ( لا ) والثقافة الجديدة … كذلك فإن هذه الإقامة قد جاءت بعد أحداث مايو 1968 وما خلفته من إحساس بخيبة الأمل ( ص 49 ). هذه المعطيات كلها جعلت الكاتب يتساءل عن :

أولا : علاقة رولان بارت بأطر الجامعة المغربية

استقبل رولان بارت من قبل طاقم التدريس بشعبة الأدب الفرنسي استقبالا اتسم بالبرودة والجفاء، هذا ما جعل الكاتب يقدم عدة فرضيات بحثا عن الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك …؟ . فهل هو الخوف من تدني شعبيتهم داخل صفوف طلبتهم، خصوصا مع مجيء مثقف محمل بتصورات مغايرة حول الأدب، والنقد الأدبي، ونظرية الأدب ، وتاريخ الأدب ( حقل الدراسات الأدبية عموما ) . تصور تجسد مع ( أسطوريات
1957) و ( الدرجة صفر للكتابة 1965) و ( عن راسين 1962) في الوقت الذي كان فيه الدرس الادبي بالجامعة المغربية ، آنئذ، لا يتجاوز عتبة الفيلولوجيا الكلاسيكية ، وتاريخ اللغة الفرنسية ( ص 93) . كما أن اعتبار فضاء الكلية ، آنئذ دائما ، فضاء للنقاشات الفكرية والأيديولوجية التي لم يكن ر. بارت بعيدا عنها، فقد كان مساندا للحركة الطلابية ( ص 83 ) غير أن إصرار الصف الطلابي على تمديد مدة الإضرابات ، أخل ببرنامج الدروس ، الذي أعده ر. بارت . الأمر الذي سيزداد تعقيدا مع أحداث يوليوز 1971. أمر سيرفع من درجة حالة الإحباط التي تعرض لها ر. بارت وهو القادم الى المغرب، بحثا عن دماء جديدة ، بعيدا عن مخلفات احداث مايو
1968 ( ص 56 ) وعن ريمون بيكار الحاقد، صاحب كتاب ( نقد جديد او خدعة جديدة ؟ ) . « ….إننا أمام رجل يعيش وضعا أنطولوجيا سيئا… « ( ص 103 ).

ثانيا: رولان بارت واليسار المغربي

من نافلة القول إن حلول رولان بارت على مدينة الرباط أستاذا، قد تزامن مع غليان واحتقان سياسيين طبعه حضور جلي ليسار قوي ذي ميولات ماركسية وقومية، زاد من حدته تأجج الصراع العربي- الإسرائيلي ، آنذاك، وما خلفته نكبة حزيران 1967 من انتشار مشاعر الإحباط وخيبة الأمل لدى النخبة المثقفة والسياسية العربية، وسعيهما الى الخروج من وضع متردٍّ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، عبر استلهام نماذج وخيارات أيديولوجية معينة .كان من الصعب، في ظل وضع كهذا، التفاعل مع كتابات بارت، إذ اعتبرت بعيدة عن مشاغل (الهنا والآن ). لقد اعتبرت أطاريح الواقعية الاشتراكية العلمية، والمقاربة الاجتماعية الماركسية للأعمال الفنية ، عموما، نماذج للاقتداء. كذلك فإن تداول بعض الأخبار حول الحياة الخاصة لرولان بارت…… زادت من عمق الهوة بين الرجل والنخبة المثقفة المغربية ( ص 83 ) .

ثالثا :رولان بارت وفئة المتعاونين الفرنسيين بالمغرب

بلغ عدد المتعاونين الفرنسيين cooperants بالمغرب خلال أواخر الستينات ستة آلاف وثلاثين متعاونا بين رجل تعليم وتقني وإداري …..الخ . رقم، على الرغم من أهميته، فإنه لم يدفع رولان بارت الى إقامة علاقة صداقة، أو زمالة تذكران. فقد اعتبرهم «حملة بداوة فكرية وتقوقع ذاتي» ( ص 69 ). علاقة لبسها الغموض، ونفس الشيء ينسحب على علاقته بالمغاربة (ص 69 ) .لكن الأمر كان مختلفا بالنسبة لعلاقته بالطائفة اليهودية البيضاوية ( نسبة إلى الدار البيضاء) «كالن بن شاية» الذي كان يمتهن حرفة التصوير الفوتوغرافي…. حيث زينت بعض أعماله الفوتوغرافية مؤلف( رولان بارت من قبل رولان بارت) . كما نذكر جويل ليفي كورس، وكذلك زواج ميشال سالزيدو ( أخ رولان بارت الأصغر ) من اليهودية المغربية راشيل . فقد كان يقضي ر. بارت عطلة نهاية الأسبوع، التي تصادف طقوس الشباط ، بمدينة البيضاء بين ظهراني أسر يهودية مغربية، وهو العاشق للطبخ المغربي : لكن المتأفف من مذاق السمن الحار»( ص 64).

رابعا : رولان بارت قارئا للأدب المغربي؟

باستثناء الدراسة التي خص بها رولان بارت المجموعة الشعرية الفرنسية ( شمس مترددة) d un soleil reticent) 1969للأديب المغربي زغلول مرسي المنشورة بمجلة le nouvel observateur ، والتي أشاد خلالها بقصائد الديوان معتبرا إياها إضافة جديدة للغنائية الفرنسية…… . وكذلك اعترافه بفضل عبد الكبير الخطيبي عليه من خلال شهادة له تحت عنوان «ما أنا مدين به للخطيبي « فإننا لا نعثر، وفق المعطي قبال، على إشارة تذكر الى الشعراء المغاربة الذين أبدعوا في اللغة الفرنسية، من الذين جايلوه أمثال محمد عزيز لحبابي ومحمد الواكيرة ومصطفى النيسابوري ومحمد خير الدين ….الخ دون أن نذكر شعراء اللغة العربية كمحمد بنيس وأحمد المعداوي (المجاطي) وعبدالله راجع . شعراء احتفى المشهد الإعلامي المغربي المكتوب بأشعارهم ، عبر نشرها في مجلات ثقافية جادة ، كأنفاس والثقافة الجديدة ولاماليف (ص 57 – 58) . ونفس الشيء يقال على نحو من الأنحاء، على اهتمام رولان بارت بالأدب العربي الذي لم يتجاوز إشارة عابرة إلى الشاعر أبي نواس، من خلال دراسة له تحت عنوان « أبو نواس والاستعارة» وردت بين دفتي مؤلف ( رولان بارت من قبل رولان بارت ص 112) والى جعفر بن احمد بن الحسين السراج صاحب كتاب «مصارع العشاق» ( ص 74 ) .

خامسا :لماذا لم يخلف رولان بارت كتابا عن المغرب ؟

بارت، «…هذا العابر المحترف ….» ( ص 11) الذي عاش مسافرا ومتنقلا بين عدة أقطار كاليابان واليونان وإيطاليا ورومانيا ومصر وتونس والجزائر والمغرب، طالقا العنان لفراسته، وحساسيته السيميولوجيتين، خلف وراءه، مؤلفات من الأهمية بمكان، إذ تكفي الإشارة إلى مؤلف «إمبراطورية العلامات « الذي خصصه للثقافة  والحضارة اليابانيتين ( حديثه الشيق، مثلا، عن الشكل الخطي للحرف الياباني ودلالات الفراغ فيه، وشكل الهدايا وغلبة الجمالي على النفعي….. وعن أشكال العمارة والأثاث…. ) وكذلك مقالته عن اليونان وعن إيطاليا عصر النهضة . فإذا كانت هناك من مبررات، تفسر عدم إصداره لكتاب أو مقال عن مصر: تعرضه لأزمة صحية رفضت على إثرها إدارة الجامعة تجديد عقد العمل، وعن رومانيا : تم طرده من طرف النظام، وعن الصين :مرافقة أقطاب جماعة تيل كيل، حال وانفراده بذاته، مما حرمه من خلوته النفسية المعتادة، وعن تونس : تزامن إقامته مع حدث وفاة والدته 1978 ، وعن الجزائر: إقامة قصيرة جدا، فما الحائل بينه وبين إصدار مؤلف عن المغرب، باستثناء كتاب ( وقائع incidents ) الذي خصص له المعطي قبال بعض الفقرات، سنأتي على ذكرها، فيما سيأتي ، علما بأن إقامته بالمغرب، كما مر بنا، قاربت الثلاث سنوات ، كما كانت له زيارات سابقة خلال سنوات 1960 و 1964 و 1965 ….

« وقائع» أو الكتاب الذي تأتي الفضيحة منه

صدر كتاب «وقائع INCIDENTS « سنة 1987أي بعد وفاة رولان بارت، حيث يعود الفضل في ظهوره الى زميله فرانسوا فال. وعلى خلاف كتابات بارت عن اليابان وإيطاليا واليونان، «….فإنه لم يقارب، من خلاله، موضوعة الجنس من منظور نظري – أكاديمي، كما فعل، مثلا، ميشيل فوكو…. ’’ ( ص 80 ) . « ….فرولان بارت تحدث أو بالأحرى قارب هذه الثيمات كتجربة شخصية وخاصة . تجربة ملؤها العشق والغواية . لقد استعان بارت في هذا السياق، بحس بلاغي سيميائي، بعيدا عن الصيغة التعيينية على نحو ما فعل مع شخصية الجيلالي الشاب المغربي، الذي اكتفى بإيراده كنص غرافي مفتوح ( J )متحاشيا وصف أي من ملامحه ، مفضلا الإشارة المقتضبة CITER ، موردا بعض صيغ اللعب بالكلمات كـ : TAPIS . و TAPER و  الصيادة… « ( ص 82).
لقد كان بارت مدركا، بطبيعة الحال، أن المثلية الجنسية في الفضاءات العربية الإسلامية هي مندرجة في إطار الخطيئة والعار، وأنها تمارس تحت ضغط الفاقة والحاجة في المقام الأول. ( ص : 81 – 82) وترافقها بعض الممارسات الشاذة، والغريبة ( حالة الشاب المغربي الذي كان يصر على وجود منشفة بمحاذاته … والآخر الذي كان يحتفظ بقبعته أثناء العلاقة الحميمية (ص 82 ) .

– هل قربتنا الترجمات العربية من عمق الفكر البارتي؟
هل استطاعت ترجمات أعمال بارت إلى العربية، على غزارتها، تقريب القارئ العربي عامة والمغربي خاصة، من العمق الثاوي خلف مفاهيم وتصورات هذا المفكر والمبدع الرهيب ؟
يرى المعطي قبال أن معرفتنا برولان بارت «….. لا تعدو أن تكون معرفة صحافية وسطحية سببها ، في نظره، الترجمات التي أنجزت حول أعماله التي لم تكن ملمة بالفلسفة الداخلية للمتن البارتي……. الذي يتطلب إلماما باللغة الفرنسية وبما يحيط بها من معارف تكميلية …..» ( ص 39 ) مستثنيا ترجمات محمد برادة وإبراهيم الخطيب (ص 39) . ومن ثمة يقترح معطي قبال إعادة ترجمة أعمال بارت ، من قبل فريق مختص يشتغل داخل إطار مؤسسي (ص 39) .

-رولان بارت والاستشراق

يطرح الكاتب سؤال علاقة رولان بارت بالاستشراق ( ص 85) : هل يمكن اعتبار رولان بارت مستشرقا ؟
يرى المعطي قبال انه على الرغم من وجود نقط تقاطع بين رولان بارت وإدوارد سعيد، من حيث انكبابهما على فضح الرؤيا الغربية للشرق، التي تسعى إلى تأكيد الهيمنة الأوروبية الكولونيالية على إفريقيا والعالم العربي، فمن الصعب وصف رولان بارت بالمستشرق لعدة اعتبارات، أهمها :

أولا « …لم يتعلم بارت ولو كلمة واحدة من اللغة العربية… « ( ص 87 ).
ثانيا : لم يعر بارت اهتماما يذكر بالثقافة والحضارة المصريتين، مثلا ،فقد كانت اقامته، قبيل مرضه، هناك ، «… إقامة سائح من الدرجة الثالثة، كما جسدته صورته وهو يمتطي جملا…»( ص 88 ) .

على سبيل الختم

«…لقد كان بارت – الإنسان متغربا مفتونا ببداوة البلد (ص 87) وبإيقاع الأجساد المؤسسة لبلاغة الاستعارة والإيحاء ، حيث الأجساد نصوص توحي بدون أن تستنفد دلالاتها: ( الجيلالي – J) « .


الكاتب : محمد الشنكيطي

  

بتاريخ : 14/02/2025