عوالم العبودية والتشرد في بلاد العم سام

أمريكا.. «نقطة انحدار» إلى «بكاء طويل»

 

عنوان هذه المقالة مركب من عنوانين لروايتين مغربيتين صدرتا هذا العام هما: ”نقطة الانحدار” للكاتبة فاتحة مرشيد و”جزيرة البكاء الطويل” للكاتب عبد الرحيم الخصار. شاءت الصدفة أن أقرأهما تباعا، بعيد انصرام أيام معرض الكتاب الأخير في الرباط. قررتُ في البداية الاكتفاء لنفسي بمتعة القراءة و”لذة النص” دون الكتابة عنهما، كما دأبت على ذلك من باب التعريف بالأعمال الأدبية والفكرية التي تستهويني أو تستفزني. لكني عقدت العزم، بخلاف قراري، على تحرير هذه المقالة المتواضعة، إذ دفعني إلى ذلك إحساسي بوجود بعض القواسم المشتركة بين العملين.
تولدت في نفسي دهشة فريدة بعيد قراءة الروايتين، ليس مصدرها فحسب أن مرشيد والخصار جاءا إلى الرواية من قارة الشعر، كما هي موضة كثير من الكتاب في السنوات القليلة الماضية، بل مصدرها أيضا أن أحداث الروايتين تجري في المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، رغم البون الزمني والموضوعي الشاسع بينهما. لا شيء يفسر هذا الاهتمام المشترك بالفضاءات الأمريكية وعوالمها، عند مرشيد والخصار، سوى المصادفة المحضة. في رواية مرشيد، يسافر حميد، بطل الرواية وساردها، إلى أمريكا، بحثا عن الغالي البردعي، صديق الطفولة وزميل الدراسة، نزولا عند رغبة والده الراغب في رؤية ابنه بعدما داهمه الموت فجأة. إلا أن هذا السفر يتحول إلى رحلة في عوالم التشرد في المدن الأمريكية. وتقتفي رواية الخصار أثر مصطفى الأزموري- استيبانيكو- وهو يغوص عميقا في رحلة العبودية والضياع في ”جزيرة البكاء الطويل”. كان استيبانيكو في طليعة مستكشفي العالم الجديد، ممن مهدوا وصول الكاوبويز إليه. جاءت مغامرة ابن الشمس في أمريكا محملة بلوحات إنسانية، وإن كانت عذابات العبودية تعبر عن ظلم إنساني قاساه هناك، وهو وأمثاله، بصورة لا مثيل لها في تاريخ البشر.
والمدهش في الأمر أن الروايتين تصفان وجه أمريكا القاتم. هنا، يمكن أن أقيم علاقة افتراضية بين الروايتين، إذ تكاد الأولى تمثل امتدادا للثانية، في سلسلة متخيلة تصف استمرار هذه القتامة عبر التاريخ الأمريكي، كأن بلاد العم سام مقام هشاشة إنسانية بامتياز. يقول حميد، بطل ”نقطة الانحدار” (منشورات المركز الثقافي للكتاب): كنت أعلم أن الولايات المتحدة الأمريكية لها الصدارة في الرفع بالإنسان إلى أعلى. ولم أكن أشك في أن لها الصدارة في الرمي به إلى الأسفل كذلك.» ويقول استبيانيكو، بطل رواية ”جزيرة البكاء الطويل” (منشورات المتوسط)، كأنه يختصر مغامرته القدرية بأمريكا: «مدن سيبولا التي ظنناها تخفي الذهب هي أيضا مدن تخفي الموت.» (انظروا إلى هذا التماثل بين الروايتين في الاستنتاج!) ورغم أن هذه البلاد تطوح بالقادم إليها إلى الموت، كما كان مصير رفاق استيبانيكو، أو في أحسن الأحوال، إلى التشرد، كما فعلت بالغالي، البطل الثاني في رواية مرشيد، إلا أن الهجرة إليها لا تتوقف. لماذا؟ تكمن المشكلة، بلا شك، في أن الجميع لا يصدق أن «أمريكا بلد هش».
لعلها الصدفة كذلك هي التي قادتني، قبل بضعة شهور، إلى قراءة رحلة الشاعر العراقي فاروق يوسف إلى نيويورك الموسومة بـ”على خطى لوركا في مانهاتن” (منشورات المتوسط: 2020، ص. 31)، التي تؤكد على هشاشة أمريكا واستحالة تصديقها. يقول يوسف إنه «من الطبيعي أن يكون المرء مشردا في نيويورك»، ومن هنا، لا يصطبغ الحديث عن التشرد في مدينة مثل نيويورك بالصدق، حسب رأيه، إلا إذا كان حديثا عن ”شعب من المشردين”. وهكذا، تساعد مشاهدات فاروق يوسف وغيره من الرحالة العالميين الذين جابوا أرض العم سام القارئ على التهوين من الطابع الغرائبي الذي يتخذه وصف مظاهر التشرد في المدن الأمريكية في رواية ”نقطة الانحدار”، رغم ما يميزها من اختيارات موضوعية وجمالية تقدم المتشرد في جبة الفيلسوف أو حكيم العصر.
أما رواية الخصار، فتبدو كأنها نقطة بداية في مسار مأساوي حكم على الإنسانية أن تنقسم إلى فئتين متقابلتين: السادة والخدم، الأحرار والعبيد، البيض والزنوج… وبين الفئتين أهوال وعذابات، كشفت ”جزيرة البكاء الطويل ” جوانب منها، ولكنها استمرت تنكشف على كتابات من كتبوا عن العبودية والاسترقاق، من أمثال ”توني موريسون”، ”جيمس بالدوين”، ”رتشرد رايت”، ”رالف إليسن”، ”أليس واكر”، ”كولسن وايتهيد ”، ”ماريز كوندي”، ”بول بيتي”، ”غويندولين بروكس”، الخ. وحتى عندما قررت أمريكا أن تنهي هذا التاريخ الأسود، تحت ضغط الحركات المدنية الأفروأمريكية في الستينيات والسبعينيات، فقد قررت أن تبقي على نقاط انحدار الإنسان فيها إلى مستنقعات ملتبسة ومتقلبة، كأنه قدر محتوم على مواطنيها.
من هنا، تلتقي روايتا مرشيد والخصار في خلاصة مفادها أن الحلم الأمريكي مجرد ”كابوس”، حلم لا وجود له إلا في أوهام الحالمين الرافضين تصديق ”الهشاشة” الأمريكية. وهي تفيد كذلك أن شكا كبيرا لا يزال يتسرب إلى مختبر ما يسمى بـ”القيم الأمريكية’!! التي تناقضت تناقضا صارخا مع واقع العبودية على امتداد أكثر من أربعة قرون.
في الحقيقة، أجدني هنا متحمسا إلى الدعوة إلى إجراء دراسة مقارنة بين روايتين تحتفيان- تنتقدان- التيه والضياع والانحدار في أمريكا.


الكاتب : محمد جليد

  

بتاريخ : 01/07/2022