عيد العرش: قوة الدفع التاريخية والوجدانية

سيكون خطاب العرش هو أول خطاب يوجهه ملك البلاد إلى المغاربة، منذ اجتياح كورونا للعالم، وهو بذلك سيكون موسوما بالمناسبة -الشرط، في قراءة كل ما يتعلق بالبلاد، إبان وبعد كورونا.
وهي عتبة أساسية في مقاربة الفهم الذي ستتأسس عليه رسائل الخطاب الملكي الجديدة..
لقد كان الزمن الذي قضاه المغرب من قبل هذا التاريخ، زمنا يتحدث فيه الفعل، وتبنى الرسائل فيه بالقرارات والمتابعة اليومية والمواقف التي تحمي الرأسمال البشري المغربي.
في خطاب العرش ستكون اللحظة مناسبة للاطلاع على متن سياسي- بلاغي لا نعرف له من شبيه في تاريخ بلادنا الحديث أو القريب على الأقل، يغوص في الحاضر، ويستطلع نوافذ الغد، يرسمل الثابت ويقترب من المتحول في القادم من الأيام والسياسات…
وهناك خارج هذا الاستهلال، ثلاث عتبات، على الأقل، يمكن منها الحديث عن عيد العرش لهذه السنة، ولعل أهمها هو حضور التعبئة الوطنية حول شخص الملك والملكية في مواجهة غير مسبوقة، مع تحريض العقل والقلب معا على استكمال طاقتهما في تحقيق التعبئة الوطنية ضد وباء عالمي.
1- في العتبة الأولى نستحضر تلك القوة الرمزية التأسيسية، باستمرار، كما لو كانت عودة إلى النبع، كلما كانت الحاجة فعلا إلى تحقيق توافق وطني كبير، فعل متحرك غير جامد في مواجهة «عدو »ما، قد يكون مقيما عاما، أو سلطات دولة تنفي الرمز والسيادة أو تكون عدوا طبيعيا، تستوجب الضرورة أن يثق المغاربة في أنفسهم، عبر الالتفاف حول قيمهم الكبرى لمواجهته.
القدرة على تحريك هذا الخزان الوجداني والسياسي، الديني والروحي، كما التاريخي والوطني، تستحق أن نستعيدها في ذكرى عيد تتم طقوسه باستحضار هذه المعركة، في بساطة الطقوس وفي قوة الاحتفاء ورمزيته.
2- العتبة الثانية، تكمن في مرور تسع سنوات على دستور، تفصلنا أقل من أربع وعشرين ساعة على ذكرى تاريخ التصويت عليه وتنزيله على أرض الواقع السياسي الوطني، مع تواصل تبعات تلك الفترة الحاسمة من التحول المغربي..
نحن بالفعل أمام دستور، كان في جزء منه استكمالا لرقعة التوافق الوطني، باعتبار أنه كان تجديدا لمؤسسات الدولة، بمباركة واسعة لكل القوى التي أرادت الدخول في دائرة الحلف الوطني، والذي تأسس حول الملكية ونظام الحكم والإقرار لها بممارسة السيادة وقيادة الإصلاح والعمل على إرساء جذوره في التربة الوطنية، وإن عرفت لحظات ذلك بعض التوتر القاسي في عقود الستينيات وقبلها وبعدها بقليل..
3- العتبة الثالثة، تكمن في القدرة الكامنة في بلاد المغرب على استدراج المستقبل بيقين المؤمنين وبأكبر قدر من الفعل السياسي الحكيم، في جوار إقليمي ودولي لا يكشف بالضرورة عن وجود عناصر تفاؤل كبرى..

في التأسيس والامتداد

قد يكون للصحافة، والمكتوبة منها بالأساس، أن تدعي شرف احتضان الفكرة الوطنية عن »عيد العرش،« منذ ذلك اليوم البعيد من أكتوبر 1933، عندما صدرت صحيفة «عمل الشعب/أكسيون دي بوبل»، بإدارة محمد بلحسن الوزاني، تحمل صورة الملك محمد الخامس، أو محمد بن يوسف، وتذكر بتاريخ الجلوس على العرش من طرف الملك الشاب وقتها، في 18 نونبر، وتدعو صراحة، ولأول مرة، إلى تخليد هذا التاريخ والاحتفال به.
وكان واضحا أن الاحتفال يتجاوز الفرح العام إلى رسالة سياسية وطنية تريد أن تحرر الرمز السيادي من سطوة خلفتها اتفاقية الحماية وكسرتها الممارسة الاستعمارية للمقيمين العامين، كما أنها كانت إيذانا بالانتقال إلى مرحلة ثانية من المواجهة، في قلبها رمز السيادة وفي دائرتها الحركة الوطنية عامة.
ليس من الصدفة أن الكثير من القادة، والذين اشتغلوا في لجن التزيين، في الإعداد اللوجيستيكي الاحتفائي لهذا العيد، في كل عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات، كانوا أو صاروا من رموز الحركة الوطنية، وقادتها، من قبيل أبي شعيب الدكالي والمهدي بنبركة والزرقطوني ..
فلم يكن الأمر يتعلق بتقليد الأعياد التي كانت محافلها الشرقية تجعل منها لحظة للسرور، بقدر ما كان المقصود منها إعطاء انطلاقة لبناء السيادة، من خلال الدفاع عن منطق جديد لهذا الاحتفال، هو منطق السلطان الذي يمارس السيادة عبر خطاب العرش، ثم وضع تشريح لأوضاع بلاد ورسم آفاق عملها..
وعندما بدأت ممارسة هذه الوظيفة السلطانية بحس سيادي، تحرك المغرب، وتحرك تاريخه، وتفاصيل ذلك كله اليوم جزء من التاريخ، وأيضا من العفوية المغربية، التي تتوارثها الأمة بوعي ولا وعي في نفس الوقت.
والمحقق أن المواجهة التي فرضتها الظروف الحالية، تحيل على مركزية المؤسسة الملكية وكاريزما الملك محمد السادس على الأقل من خلال ثلاثة مداخل:
أولا، تحقق للمغاربة الكثير من القدرة الاستباقية والنجاعة، في اتخاذ القرار، وذلك لوجود إمارة المؤمنين، في تدبير الفضاءات الروحية، وهي فضاءات تهديد صحية مع كورونا، في علاقة ذلك كله مع تحجيم حظوظ الوباء في الانتشار في بيوت الله، وهو أمر تميز به المغرب، في جهة التدبير والتنزيل، وإن كانت كل الدول الإسلامية اتخذته، كانت لإمارة المؤمنين، شخصا ومؤسسة، يد في طريق تيسير القرار.
كما تميز تدبير المغرب بكون الملك، القائد الأعلى للقوات المسلحة وقائد الأركان -عبر الموارد المالية واللوجيستيكية والطبية والبشرية عموما للمؤسسة العسكرية- سهر من أجل التحصين الوطني ضد الجائحة وتثمين المجهودات المدنية، عبر المستشفيات الميدانية وعبر الأطباء العسكريين وعبر مشاركة قوات الجيش في تأمين القرار الوطني في هذا الباب في الشارع العمومي..
واستطاعت الملكية عبر بوابة تأمين سير المؤسسات وصيانة حيويتها أن تضمن بالفعل سير المؤسسات، بما فيها البرلمان والحكومة والباقي من بناء وهندسة الدولة والمجتمع، إلا في ما يتعلق بإجراءات مواجهة الجائحة..
و هو ما يحيلنا على العتبة الدستورية…
فالواضح أن دوائر الشرعية اشتغلت كلها: الدائرة الشرعية الدينية والشرعية المؤسساتية، والشرعية التاريخية .. ولم يتم تقزيم الشرعية المؤسساتية، كما جاء بها الدستور.
ليس هناك خلاف عميق حول التقدم الذي حازته الممارسة الدستورية عبر نص يوليوز 2011، فهو تقدم كبير على مستوىبناء الطبيعة الدستورية للملكية، التي نصت عليها وثائق التوافق الوطني منذ 1944، والتي تتحدد عملية تطور جوانبها في كل مرحلة، من مراحلنا. ولعل يوليوز 2011 كان أكثر المراحل تطورا، بدون الغوص في التفاصيل.
يبقى التأهيل السياسي أمرا آخر ، لا يرتبط فقط بإرادة الفاعلين المركزيين بقدر ما له علاقة بكل مكونات الحقل السياسي، والتي تختار أحيانا تعطيل الدستور … بالسياسة وممارسة السياسة التي تجعل تطور الهندسة الديموقراطية للقرار السياسي في آخر الترتيب!!!
ومن العادل والمنصف فصل ما هو ذو علاقة بالدستور والدستورانية المغربية وما هو ذو صلة بموازين القوى في الحقل الوطني، بمعنى أنه لا يمكن نسب كل خلل في سير المؤسسات وتوازن السلط وقوة الفاعل السياسي إلى الدستور وتحميله كل الأوزار، بدون استحضار الفعل الذي يكون لموازين القوة، وممثلي الطرف الديموقراطي اليساري الوطني التعددي… إلخ، والأدلة لن تعوزنا في هذا الباب ….
ولعل ما تكرس معه، هو القدرة الذاتية للمؤسسة المركزية في الدولة في ترشيد التاريخ المغربي وقدرتها على تحقيق توافقات كبرى حول تمنيع الخيارات الديموقراطية التحديثية، كما هو الحال مع رفع المبدأ الديموقراطي إلى رابع الثوابت الوطنية..
ستكون هذه السنة مناسبة لكي نعرف إلى أين نسير، مع سعي البلاد إلى مواجهة تحديات رهيبة:
البعد الاجتماعي المنذر بالصعوبة.
البعد الاقتصادي الذي ينذر بزلازل..
البعد السياسي الذي عليه أن يواصل ضمان الانتقال الديموقراطي مع حرص المغرب على الاستقرار في ممارسة سياسية طبيعية ومنتظمة لا تخضع للرجات غير المفهومة..
التعبئة الوطنية حول المسار الديموقراطي واستعادة الثقة وبنائها، مع ما تحقق منها في السير العام لتدبير الجائحة..
لقد راودتنا أفكار حماسية، من قبيل أن يتداعى أثرياء البلاد إلى وثيقة المطالبة بتحصين البلاد عبر نداء يوقعون عليه يشبه ما فعله الوطنيون في السياسة والتاريخ والتراب والسيادة.. وتراودنا أفكار فعلا بأن يكون الوضع فرصة لتفجير طاقات أقوياء النفوس والدفع بالشبيبة المغربية في دورة تكوينية وحماسية لبناء أوراش الطرقات والمؤسسات الاجتماعية وتأهيل البنية الصحية في تطوع وطني معلن عنه ويشارك فيه الجميع (طريق الوحدة الجديدة من وإلى أكادير مثلا)، وتراودنا الفكرة في أن توسيع التوافق الوطني حول الإصلاحات السياسية، والعقد الوطني، وتجديده، والرفع من قوته المحركة للتاريخ، كما وقع في فترات عصيبة من تاريخنا الحديث..
وكل شيء ممكن بروزه بمناسبة عالية الطاقة، رمزيا وماديا، مثل الذكرى اليوم….


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 30/07/2020