«عيون أرجوس» العمّاني

بين كلمتين،متضادتين أو متقابلتين، تبنى القصة(غلق) وتقام بكل مقوماتها عند القاص ناصر المنجي (من سلطنة عمّان): أشخاص. زمن. مكان. أحداث. حبكة. حالة نفسية.مواقف.مغزى..
بين إغلاق الباب وفتحها، تحدد مصير أحمد.انفتح فمه للتثاؤب بعد أن أغلق باب الطاكسي.ثم انغلقت أبواب وانفتحت أبواب ليجد نفسه خارج المكتب الذي قصده.قصد بيته والتثاؤب يغالبه بعد أن فتح الباب أغلق عينيه…وخرج من النافذة دون أن تغلق هذه المرة.
الأبطال:أحمد، الكاتبة، الموظف، الحارس، السائق.
الزمن:الصباح، المساء .
المكان:عمارات، مباني، شوارع.
الحدث:بحث عن شغل.حالة نفسية محبطة مدمرة…انتحار أحمد.
القصة الأخرى»صفع» تسرد هذه المرة، في ما بين صورة الوجه و المرايا. في الحمام، في المصعد،على زجاج باب العمارة في السيارات المارقة على زجاج المقهى ثم حتى في قعر فنجان القهوة. أما في بؤبؤ عين النادلة، فكانت الصورة مدهشة. قصد البحر هربا حيث لا مرايا هناك فكانت الموجة عاكسة لوجهه. حاول النظر إلى السماء لكنه تهيب من الرؤية إذا حدثت.ما بقي إلا أن ينكس وجهه في الرمال إلى أن يرخي الليل سدوله. ومكث هناك كأي شيء مهمل على قارعة الشاطئ.
أما قصة»الدغل» هذه المرة فتجري بين البطل ولحيته. زغيبات حولت اليافع إلى رجل كامل الرجولة. بعد أن شجعه زميله في العمل «ربّي اللحية» وحثته زميلته «منظرك يخيف» هو الذي كان دائما خائفا من كل شيء، من الجار والزميل والمدير وحتى من حارس الإدارة ..تضامن مع مسلم من السيخ قتل في أمريكا فقرر ألا يحلق ذقنه.ثم أحس أنه يثير فضول الفتيات بلحيته. بدأ يمسدها تيمنا بالفلاسفة والمفكرين ..ثم فجأة انقلب الزهو إلى حسرة وبكاء لا أحد لديه ليربيه فربى لحيته ولا أحد له ليتضامن معه فتضامن مع الهندوستاني من السيخ لا أحد له في هذه الدنيا ..متأسفا نهض للذهاب إلى الحلاق فلم يستطع، هوى على الأرض متعثرا في لحيته فمات.[هذا التعثر هو إضافة من الناقد.ربما بها تستقيم النهاية .هل من حقه التدخل في سير الحدث؟ ربّ…ما.
في سرد آخر»الذي كان يسافر بعيدا»، كان الفتى يجعل من تعب مراقبة شماريخ فحل النخلة وتشمم الدّخ الذي يشبه رائحة ماء صلبه، متعة ما بعدها متعة خاصة حين يرى سكان قريته كالأقزام.وكلما صعد إلى الأعلى كلما تضاءلت أجسادهم. لكن وهو في هذه الأعالي، كيف له أن يرى أجسام الفتيات وهن يستحممن في فلج الساقية؟ وكيف له أن يستمني دخ صلبه لتلقيح النخلة؟ والقرية تبدو قبضة كف في السيح الأفيح؟ اللهم إلا إذا افترضنا أن العملية برمتها خيال في خيال وحلم لا يكذبه حلم!إلاّ وقوف الأب بعصاه على الفعل الشنيع بعد السقطة المريعة، فهذا أمر أكيد.
ذكر أبو شيبة في كتابه «تحفة الأعيان في سيرة أهل عمان»(دفق)أن النبي سليمان بن داود هو الذي أمر الجنّ بحفر عشرة آلاف من الأفلاج في عمان مازالت إلى الآن.هذا الأمر جاء من الأعلى، أما ما صار في الأسفل فهي الأفلاج. القصة تتم من الأعلى إلى الأسفل أي بين الأفلاج: تحكي سيرة امرأة ولدت في الفلج. ترعرعت فيه.أصبحت امرأة في مياهه. تحسست جسدها فيها.قطفها فلاح من الفلج.باكورة نسلها مات في الفلج..إلى أن قضت نحبها في الفلج فعطرت روحها كل عروق النخيل التي بزغت في الأعالي:
وثنايا الحسنا ضاحكة وتمام الضّحك على الفلج.(ابن النحوي).
سأختم بهذه القصة»تتمة لما قد اكتمل» من العينة التي اخترت للحديث من خلالها عن المميزات الفنية لقصص الأديب ناصر المنجي. وهي تدور بينه وبين نفسه أو آخره أو ظله.بين ناصر المنجي رجل السطوح وناصر المنجي رجل القبور.استولت على الأول فكرة القتل، ولم يجد آخرا سواه لقتله. ولما قرر تنفيذ فعله، قصد مقبرة لحفر مثواه.عثر على نفسه في القبر . تعاركا.. قتل الثاني الأول وقفل راجعا لأكل الفول.[لست أدري هل فول هو مدمس أم لا؟].
تمتاز هذه المجموعة القصصية «إحدى عشرة قصة» بخروج نفسها القصصي من الضيق.فهي بينية تبدأ وتكبر ثم تستوي وتؤول إلى مبتدئها إما بين كلمتين أو بين شخصين أحدهما تضعيف للآخر، أو بين الوجه وانعكاساته، أو بين الفرج والفلج..وحين ينبثق السرد من هذا الفلج الضيق، يعتمد التكرار والاستطراد لكي يكبر ويكتمل.ثم يعتمد الغرابة المقلقة لكي يفاجئ البداهة وقد أقول أيضا البلاهة.عالم سريالي ضيق يستطيع القاص أن ينفلت من ضيقه ليوسع اللغة ومفرداتها ووصفها، ويقدم لنا أبعادا لا وجود لها في الواقع..بُعد الأقزام منظورا إليهم من علياء النخيل وبُعد الوجه المتعدد المعكوس في المرايا، وبُعد الأنا في ذاتها وضعفها، وأبعاد الأفلاج كما بناها سيدنا سليمان …
عالم خيالي يستثمر اللاشعور والدوافع الغريزية للتعبير عن حالة الإنسان، منتقدا أفعاله السلبية، مشيدا بإنسانيته الخيرية.وهو عالم سوداوي أقرب ما ينسب إلى كافكا في ثقل بيروقراطيته وشعوره الحاد بالزلة وارتكاب المعاصي حتى أمست الحياة الاجتماعية مقرفة مدعاة للغثيان.حالة يميل فيها الإنسان إلى تربية العبث وضياع الروح وفقدان الثقة في الأقطاب،إنسان منغلق على ذاته في ظروف بئيسة محزنة لا مخرج مفيد و إيجابي فيها .حياة غامضة غير مفهومة تغلب عليها الاعتباطية..


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 05/01/2024