غادة الأغزاوي الشاعرة تعتمر قبعة الساحرة

جاءت إلى الشعر، وعليها منه بلل كثير، وطَلٌّ رقراقٌ غزير. لم أحظَ بجواب عن سؤالي: من تكون؟، ومتى شرعت تكتب، وهل يكون عملها الشعري الخفيف اللطيف البديع، ابنها البكر، أم يكون تاليا لعمل أو عملين سابقين، رأتْ غادة أنهما لا يفيان بالعهد وبالوعد، ولا يشبعان انتظارها ومرامها، فارتأت أن تخرج هذا: ( قد أعرف أين أمضي )، أو أن تكون مثل لوتريامون أو رامبو، أو كوربيير، أو آخرين الذين اشتعلوا دفعة واحدة، وأتوا بالمعجب العجيب، والصوغ الشعري الغريب: غريب على السياق، والمواضعة، والمسطرة القائمة، والقاعدة المتبعة، والصور المرعية، والمجاز الجاهز؟. أو كمثل أخواتها الشاعرات المغربيات اللاَّتي يكتبن شيئا مختلفا، شعراً آخرَ، بوْحا فنيا جارحا، وأحيانا جامحا، وحارقا ضمن لغة مسنونة، وخيال مشبوب، وصور غاية في الإدهاش والمفارقة. إنهن القريبات من غادة الأغزاوي، أقصد: سكينة حبيب الله، وفدوى الزياني، وعائشة بلحاج، ودامي عمر، ونادية القاسمي، ونوال الزياني، وكريمة دلياس****، وزكية المرموق، وأخريات؛ من دون ذكر الشعراء الذكور الذين يغرفون من البحر نفسه، ويشربون من العين عينها، ويرتشفون كاسات الحنظل أو النِّكْتار ذاتها وهم يواصلون ترسيم الاختلاف والمغايرة، وبناء الصوت الآخر، الصوت الجديد. فماذا يضيف الديوان الشعري قيد القراءة والتفكيك، إلى ريبرتوار الشعر المغربي الحديث والمعاصر؟. ما جديده؟، ما إدهاشه؟، وأين تكمن مغايرته، ويتجلى اختلافه، وتتبدى جدارته الشعرية؟.
أما جديده، فكونه لا يتقيد بمدرسة شعرية ما، بل يتأيد بنفسه حافا محتفلا بشعرنة الضجر والكآبة، ومزدهيا بلغة بسيطة لكن عميقة ومأهولة بأسئلة أنطولوجية مضمرة، وبأسى شفيف مستبطن، وفرح غامر أيضا يفيض أكؤسا بلورية طيَّ الموائد اللامرئية التي يتمدد فوقها نارْنَجُ جرح لغوي، وجرح في الحب، وجرح في الإقامة، وهوة في المنفى، وندم واسع العينين، غزيز**** الأحداق.
لغة الشعر ترقص، لكنها تفكر أيضا. تفكر في الرقص ذاته، في حوافزه ومجراه، وفي عفويته، وقواعده ولا قواعده، وهل أدى غايته، وأوْفى على الخفة والرشاقة، والوخز اللذيذ البعيد. وتفكر في ما بعد الرقص، أي في ما بعد التخييل والتنخيل، والاستصفاء والتوصيف والمجاز، والتشبيه. ما يعني أنها تفكر وهي تنكتب والبياض يحف بها، واللحظة معلقة بأهدابها، في ما ستصير إليه اللعبة، لعبة الشعر أساسا، وكيف بالإمكان أن تجمع بين التأمل والإدهاش، بين الإيراق والاستغراق، بين الخطية والتوتير والإنهاء المباغت الخاطف كضربة فرشاة لفكرة كانت بصدد إبراز وجهها، وسماتها، وملامحها، وأزيائها.
هو ذا الانطباع الأولي الذي يرتسم في الذهن، ويخرج به قارئ العمل الشعري هذا: ( قد أعرف أين أمضي )، أو هكذا يخيل إليَّ. وبالإمكان دمغ العنوان بالاستفهام، بالأداة هلْ؟ لينوس القرار بين الشك واليقين، بين الخفاء والتجلي، بين التوجس خيفة مما ينتظرها في آخر الدرب والمسار، وأملا ورٍضا مما قد تناله من بُغْيات جزاءَ صبرها و» قنوتها «؟. وإنْ كانت « قدْ» قبل المضارع كما هو مقرر، تفيد الشك والتقليل، وتذبذب اليقين. إن التأويل لضرورة قصوى هنا، ضرورة حيوية لأنه يسمح بوضع اليد على الإضافة النوعية على صعيد اللغة والأسلوب، وعلى صعيد الشكلنة والبنينة والتركيب، والتحبيك الناجح، ونسج مسرودة شعرية تجترح الوهج والوجازة، والكثافة، والتعبير البسيط الخالي من التعقيد، ومن مساحيق البلاغة والتوشية والزخرفة. فالوضوح المؤتلق المنغلق في الآن عينه، يوصل رسالة لا تني تبزغ لتختفي، وتختفي لتبزغ. إنه الوضوح العميق الخفيف الأحمر العقيقي ككرزة في راحة اليد، أو الأخضر الفردوسي كعصفور الجنة، أو الأصفر المُعَصْفر كفراشة على رمش العين. وضوح يفجؤنا ونحن نحاول ـ فرحين مهللين ـ تقشير المعنى، واستبانة الطريق نحو الهدف المنشود. أقلتُ الهدفَ المنشودَ؟، لعمري، لقد أخطأتُ. فما في الشعر اللطيف الرهيف الممشوط السوالف بعناية وتعهد عجيبين، الذي يقوم على المفارقة والإدهاش، هدفٌ ولا مبتغى، ولا هم يحزنون. بل فيه اللذاذة الغميسة التي تستقصى وتستقطر من غموضه اللاَّزَوَرْدي، ونهاياته اللاَّمتوقعة التي تنثال بكل الفُجاءة، لُمَعاً ضوئية تغمز غمزا سريعا ومتواصلا من دون أن تنشر ضوءها، أي معناها ودلالتها. وهكذا، تسمح لنا القراءة المُبْصرة المستبصرة لا العاشقة فقط ـ على الرغم من أنني سقطت مغرما بالمجموعة الشعرية هذه ـ بالوقوف على أهم موضوعاتها ومضامينها، هذا، إن كان للشعر ـ أصلا ـ مضامين وموضوعات. فالتجربة الشعرية تقول ـ عادة ـ بكل ما أوتيت من سفور أو غموض وجمال، بأن الشعر حالاتٌ لا موضوعاتٌ. والحالات، كما هو مقرر أو ماهو في شبه المقرر، تأتي وتغيب، تومض وتنطفيء، تشتعل وتخبو. تهطل وتنحبس ـ فجأة ـ كمطر الصيف، حتى لكأنها لوحات منقوعة في الماء واللون، مترعة بالضوء والسحر. تحملها لغة خاصة هي لغة الشعر بطبيعة الحال. تلك اللغة التي ما انفكت تتجدد وهي تتقولب وتتشقلب، أو تتمرد على صائغها وصانعها، صائحة بالفم المليان: « إنما أنا بوْحٌ وجرح وفرح ومرح ومسرات وأحزان، خذروفٌ وصُوان، طَلل وطَلٌّ، غيم وشمس وندى. وأنا غنائي أو درامي، وذات ممسكة بقشور اليقين، ولِحاء الشك والارتياب، ساعية ـ أبدا ـ إلى الإمساك بتلابيب الضوء الهارب، والظلال الرّوَّاغة، والسراب القريب البعيد، والواحة المحلوم بها في القَفْر والمَحْل والتصحر الذي يُطوق الماحَوْلَ والمحيط، والدائرة والإنسان، والكائنات طُرّاً. تكون اللغة الشعرية زئبقية في أكثر حالاتها ونماذجها، أو لا تكون. تصور ما لا يصور، وتقرب ما يعسر على التقريب، وتشكلن بالغة المنتخبة، اللغة الخصوصية ما سره أو حقه الاستحالة، أو ـ في الأقل ـ الاعتياص والانزياح والعدول.
تقول غادة في أمها وصفا يَجُبُّ المعروفَ والمطروق: ـــ ( كلمة صغيرة من لحن المغفرة تحرق عينيَّ، وقطرة شاردة من ليمون الهدب تغرق صلاتي ـ وشهقة صماء من غيم الضلوع تؤرق مدايَ ـ وتر خفيف من عناق الكمنجات يخطف صداي ـ حلم منهك من شجر النارنج يشيع منفاي ـ وشوق كثيف من عسل الأيام يتوسد الضباب ).
هو ذا توصيف الأم الشعري المغرق في الخيال، والمنبجس من ذرات دم الشاعرة الساكن سويداء قلبها. ولا مجال للبحث عن تفسير للصور البديعة التي توالت تُصَوْرنُ الأم، أجمل نساء الكون. كل أم هي الأجمل لا محالةَ. فالرومانسية مرفودة بالسريالية، تجبرنا على السكوت. لو كان الشعر تقليديا مكرور الصورة، عاديا مستعادا، موطوءا ومطروقا، لاكتفت بطلب رضا الأم، وصوَّرَتْها ينبوعا ورمزا للطهارة والحب والتضحية والرعاية والعناية، والسهر، والجمال. لكنها راهنت على ما يُفَرْدِنها أيْ: على ما تكون هي من بدأه، واستبق الغيرَ إلى توشية الأم به. والشاعرة غادة واعية كل الوعي بما أقدمت عليه من حيث خروجها عن المباشر، والهتافي، والمنمط والمقمط من التعابير والمعاني المطروحة في الطريق. واعية بكون الشعر غاية في ذاته عليه أن يقول، وعلينا أن نَتَأَوَّلَه. تغتسل اللغة به، وتتزين حتى وهي غائصة في الغامض والبعيد من المعاني، والقصي من الاستعارات، والمخترق للمألوف والمباح. فاللغة تجرح الشاعرة كما عبرت بشكل جميل، وكذلك يفعل الشعر والحب والمنفى، والندم:
ـــ ( لولا خوف الأصابع من النار
لكان الشِّعْر لمْساً
يتدحرج بين الأصابع الباردة،
يتسرب داخل الجلد.
لماذا أرفض الإصغاء؟
يمكنني أن أشعل
النار
والشعرَ
وسيجارة واحدةً
قبل أن أقول: تصبح على خير.

ــ وفي نص آخر، تقول وهي تَمْهَرُ بطلاء دمها الحار، بوحا جارحا، وحائرا ومحيرا:
( من لم تمتْ أوَّل مرة
تثرثر كثيرا
كي لا يعود الحب
كجندي متوحش
ليتأكد من موتها.
لا تصدِّقْ أنني ميتةٌ
ولا تصدق أنني حيّةٌ
إياكَ…
أنا أضحكُ
وأتشمم رائحة التبغ
على أصابعي.

غير أنه ضحك كالبكا بتعبير إمامنا في الشعر أبي الطيب المتنبي. ضحكٌ غائر أليمٌ. مُزاحٌ مُرٌّ، ولو تبدى ظاهرا، وكشف عن أسنان بيضاء مصقولة، وأسارير منشرحة. ضحك مثقلٌ بالسخرية السوداء من نفسها أولا، ومن غيرها. سخرية مزدوجة مما عانته وكابدته من غدر وصد وهجر ووحدة، أي مما ألمَّ بالحب كإحساس رهيف حسي ومتعالٍ في آن، من ندوب وكدمات وجروح. إذْ أن حلم غادة يتحول في اللحظة ذاتها إلى كابوس ثقيل خانق يهدد حياتها بالتفاهة والسخافة:
ــ فوق جسدي،
جدار سميك.
مشغولةٌ به
وبين الفينة والأخرى
آكلُ الهواء الذي يتسرب.. وأخيف الموتَ بيدي،
مثلما أخيف ذبابةً جائعةً.

وإذاً، هي في حاجة إلى هواء وشمس وماء. في حاجة إلى رحابة صدر، وحدب ورعاية، وحب أبقى وأقوى من الموت. وفي حاجة البوح الدفين إلى لغة أنقى، لغة أرقى، لغة تبرع كشِصٍّ في صيد اللؤلؤ بعد افتكاكه، بحذق وحرفية ومِراس، من الأصداف والمحار، كما في قولها الشعري الآنف، وصورتها السريالية المدهشة: ( آكل الهواء الذي يتسرب، وأخيف الموت بيدي، مثلما أخيف ذبابةً جائعة ).
ــ أو كما في مثل قول الشاعرة التالي:
صوته الذي لم ينادني مرة مثلما أحب
سأزرعه في قلب السماء،
دون أن أعرف
في أي بقعة سيمطرُ.
السماء لا تتكلم
ولا أنا.
لكننا نجيد الضحكَ
بلغة المطرِ.

هكذا، يصبح صوت الغائب، صوت الحبيب، صوت الرجل بإجمال، بعيدا وسيعا، رحيبا وممتنعا، مترامي الأطراف كأمبراطورية هارون الرشيد الذي لم يكن يعرف في أي مكان ستمطر سحابة مرت سريعا فوق رأسه تقودها الرياح إلى وِجْهة مجهولة وجغرافية نائية. أو كأمبراطورية إليزابيث ملكة بريطانيا والكومنولثْ، التي تجهل متى بزغت الشمس، وأين توجد الأرض التي بزغت فيها ومنها. وإذاً، ثمةَ ما يدعو إلى القول بأن غادةَ تعبث بالجاهز المروي، تشقلب الصور، وتعيد تركيب معانيها وأخيلتها كما تفعل طفلة بالدُّمَى والعلب الملونة. تعيد كل هذا وغيره معجونا في نشأة أخرى، وسيرة جديدة، سَنَدُها، في ذلك، فسحة ثقافية معتبرة، ومرجعية معرفية وإبداعية تنهل وتمتح منها من دون أن تقلدها أو تستسلم لبنيانها وسَمْتها ونسقها؛ وكذلك يفعل المبدعون الحقيقيون الذين رأوا أنه بالإمكان أن يبدعوا على إشراق أو خمول ما كان، بغير أن يسقطوا في مطب الاجترار، ومأزق الاغترار مع سبق الإصرار. بل أن يأتوا ربما بما لم تستطعه الأوائل، وذلك لأن الزمن غير الزمن، والمساق غير المساق، والشروط السوسيو تاريخية، والسوسيو ثقافية غير الشروط التي أوحت إلى السابقين ما أوحت، وزينت أمام أعينهم ما زينت:
ــ هيَّا اِستيقظْ
لاشيءَ أجملَ
من أن أقول لك استيقظْ
ثم أفتحُ نوافذَ قلبي على بحر بيننا.
اِنتظرْ..
كلاَّ.. إنه شيءٌ بشعٌ
إني أتدرب على حقيقة بعيدةٍ
مثل ضريرٍ يعاتب الضوءَ داخلَ بئرٍ.
لاتقلْ شيئاً.. عيناكَ أجمل من الكلامْ

الضريرُ يعاتب الضوء لأنه لا يراه، أو هو يراه شيئا دخيلا يزعج عمق ليله، وحكمة ظلامه الممتد. والعينان تقولان كل شيء من دون أن تنبسا بحرف، ومن دون أن تحركا اللسان ببديع الوصف والبيان. ألم يقل أحمد شوقي الأمير:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت عينيَّ في لغة الهوى عيناكِ

لغة الهوى لا يلملمها ولا يكورها ويقولبها الخطاب ولا الكلام. لغة الهوى لغة روحية علوية نفسية لا يمظهرها ويبرزها سوى الدمع، أو حرارة الجسم الفجائية، أو صعود الدم قانيا إلى الوجنتين. وقال شاعر أم كلثوم، كما أنعته، أحمد رامي:
ــ الصَبُّ تفضحه عيونُهْ وتَنِمُّ عن وَجْدٍ شؤونُهْ

وبالإمكان الاسترسال في إيراد الشواهد الشعرية البهية، والصور الطرية الغضة لولا خوف الإطالة والإطناب. وليس يحيد عن التصوير في الشعر إلا ضائع ومُضيّعٌ أو مُدَّعٍ. فالتصوير أسٌّ من أسس الشعر أنَّى جاء وكيفما جاء، وعلى أي هيئة وسَمْتٍ حَدَثَ وتَبَجَّسَ، وأيِّ الألبسة ارْتدى، والمهاري امتطى. وهو دالٌّ من دوال الشعر الأهم التي تراهن على تكليم الأشياء بالغوص فيها ومن ورائها، وخرق الحجب والستائر الواقعية الغامقة، للوصول إلى ما يوصَمُ ـ في لغة وعُرْف السَّدَنة والأوصياء ـ بعالم البِدَع والضَّلالة، والجَراءَة، واستنفار الحواس، وإشعال كافة الحدوس بما فيها تلك التي لم يَطُلْها قلم الفيلسوف الأديب الفرنسي الشهير: هنري بِرْغْسونْ.
بالإمكان الاسترسال في إيراد ذلك وغيره، إيقانا منا بأن هذه المجموعة الشعرية الصغيرة الجميلة الماتعة، تسمح به وأكثر، وتنهض دليلا على أن الشعر العربي الجديد بات متنوعا، متعددا، ساحرا في أكثر تمثلاته ونماذجه، غاويا، ومغريا بالقراءة اللذيذة، والمعرفة الفريدة، والاستمتاع الألذ.

إحــالـة:

ــ ديوان: ( قد أعرف أين أمضي ) ـ غادة الأغزاوي ـ منشورات بيت الشعر في المغرب ـ 2015.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 01/09/2022