غارثيا ماركيز كما يراه بارغاس يوسا

ليست هي المرة الأولى التي يتحدث فيها الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الحاصل على جائزة نوبل للآداب، عن صديقه الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، فلطالما جمعت بينهما صداقة مرت كمثل كل صداقات الأدباء بفترات توتر وتقارب. ففي مقابلة أجراها الناقد الكولومبي، كارلوس غرانيس، مع ماريو بارغاس يوسا، مؤخراً، وتناولا فيها لأكثر من ساعة العلاقة التي جمعت بين الكاتبين، والتي بدأت عام 1967 لتنتهي بخلاف كبير عام 1976، راح ماريو بارغاس يوسا يكشف لنا خبايا هذه العلاقة والمحطات الرئيسية التي جمعت بينهما:

اكتشاف كاتب

يقول يوسا: كنت أعمل في باريس في هيئة الإذاعة والتلفزيون، حيث كنتُ أقدم برنامجاً أدبياً يتناول الكتب الصادرة في فرنسا والتي يمكن أن تلقى صدى في أمريكا اللاتينية. وفي عام 1966 انتشر في فرنسا كتاب لمؤلف كولومبي يحمل عنوان «ليس للكولونيل من يكاتبه» . أُعجبْتُ بأسلوب الكتاب الذي يتميز بواقعية صارمة وبوصف دقيق لذلك الكولونيل العجوز الذي لم يتوقف عن المطالبة بتقاعدٍ لم يحصل عليه. شعرت برغبة عارمة في التعرف على مؤلف تلك الرواية: غابرييل غارثيا ماركيز.

رواية لمؤلفَيْن

كان هناك من سهّل التواصل بيننا. لا أذكر، بالضبط، من بادر إلى الكتابة إلى الآخر أولاً، ولكن سرعان ما ظهر بيننا انسجام كبير جعل منا صديقين دون أن يرى أحدنا الآخر. حتى أننا في لحظة معينة قررنا المشاركة في تأليف رواية حول الحرب بين البيرو وكولومبيا في منطقة الأمازون. وكان ماركيز يلم بمعلومات عن الحرب أكثر مني بكثير. ربما كانت تفاصيل الحرب مبالغاً بها إلى درجة أنه لم يكن باستطاعتنا أن نجعل منها تفاصيل ممتعة وتصويرية، ولكن بالرغم من ذلك، استمرينا في تبادل الرسائل حول المشروع، والذي كنا على اتفاق تام حوله، غير أن بريق هذا المشروع راح يتلاشى مع مضي الوقت. ربما كانت الصعوبة الكبيرة التي شعر بها كل منا في كسر حاجز الحميمية الخاص لمشاركة ما كتبه الآخر هو السبب الرئيس في اختفاء المشروع وتلاشيه.

صداقة من النظرة الأولى

أكد لنا اللقاء الأول الذي جمعنا في مطار كاراكاس عام 1967 أن كلينا يعرف الآخر منذ زمن بعيد. لقد دخلت إلى سريرته بالطريقة نفسها التي دخل فيها سريرتي. وفعلاً سرعان ما ظهرت علامات هذا التواصل، فاللطافة المتبادلة كانت عنوان لقاءاتنا المتكررة إلى أن أصبحنا صديقين مع الخروج من مدينة كاراكاس، حتى إنه يمكنني القول بأننا خرجنا صديقين حميميين. بعد ذلك اللقاء سافرنا إلى ليما وهناك أعددتُ مقابلة أمام الجمهور في كلية الهندسة، وكانت تلك المقابلة من بين المقابلات القليلة التي أجراها ماركيز أمام الجمهور، حيث كان يتمتع بشخصية خجولة تجعله يرفض إجراء المقابلات. كان ماركيز يكره إجراء المقابلات أمام الجمهور، ولعل ذلك يعود إلى شعوره بالخجل الكبير وقلة كلامه وحديثه بطريقة مرتجلة.
كانت تختبئ خلف ذلك الخجل شخصيةُ رجل معاكسة تماماً لهذا الشعور، فقد كان ماركيز شخصاً مسلياً وبارعاً في الحديث.

وَلَه فوكنري

أعتقد أنه كان للقراءة دور كبيرٌ في تكوين صداقتنا. كنا، نحن الاثنين، مولعين بأفكار فوكنر. لقد كان فولكنر موضوع حديث الكثير من لقاءاتنا المشتركة. فمن خلاله تواصلنا مع التقنية الحديثة للرواية التي تقوم على السرد دون احترام الكرونولوجيا. لطالما تبادلنا وجهات النظر حول هذا الموضوع. وكانت القراءة هي القاسم المشترك بيننا، ففي حين تأثر ماركيز بفيرجينيا وولف، وقرأ لها مطولاً، كنت أنا متأثراً بسارتر. أعتقد أن ماركيز لم يقرأ لسارتر أي شيء. لم يكن ماركيز مهتماً بالوجوديين الفرنسيين، أولئك الذين أثروا فيّ كثيراً. إلا أني أظن أنه قرأ كامو، كما أنه كان على اطلاع عميق على الأدب الأنجلوسكسوني.

أن تكون من أمريكا اللاتينية

كلانا اكتشف أنه كاتبٌ ينتمي إلى أمريكا اللاتينية أكثر من انتمائه لوطنه. أنا من البيرو وماركيز من كولومبيا. اكتشفنا أن أصلنا وهويتنا تعودان إلى ذلك الوطن المشترك الذي لم نكن نعرف عنه الكثير في ذلك الوقت، والذي بالكاد كان يمثلنا. إن إدراكنا اليوم لحقيقة أمريكا اللاتينية على أنها وحدة ثقافية لم يكن موجوداً عندما كنا شباباً. بدأ هذا الأمر يتغير مع اندلاع الثورة الكوبية، وهو الحدث الرئيس الذي أيقظ فضول العالم لمعرفة ما يجري في أمريكا اللاتينية، وقد سمح ذلك في الوقت نفسه باكتشاف أن هنالك أدباً مجدّداً.

كوبا وقضية باديا

كان ماركيز قد ذهب إلى كوبا ليعمل في الصحافة اللاتينية مثل صديقه بلينيو أبولييو ميندوثا، كلاهما بدأ العمل في الصحافة اللاتينية، التي كانت تعمل باستقلال عن الحزب الاشتراكي. لقد وضع الحزب الاشتراكي نصب عينيه، وبطريقة لم تتجاوز الرأي العام، الاستيلاء على (الصحافة اللاتينية)، وعندما حصل ذلك، تم تطهير ماركيز وصديقه ميندوثا وطردهما من العمل، وهذا ما شكل لدى ماركيز صدمة شخصية وسياسية. كان ماركيز شديد الغموض حول هذا الموضوع، إلا أني عندما تعرفت عليه، وكنت آنذاك من أشد المولعين والمتحمسين للثورة الكوبية، عرفتُ أنها لم تكن تعني له الكثير حتى إنه تبنى تجاهها موقف الساخر والمستهزئ وكأنه كان يقول في سريرته :»انتظر أيها الشاب، وسترى!». كان هذا موقف ماركيز الشخصي والخاص وليس العلني والعام. عندما حدثت «قضية باديا» عام 1971 كان قد غادر برشلونة، لا أعرف بالضبط إن كان قد غادرها آنذاك لفترة مؤقتة أم دائمة، لا أذكر جيداً. ما أذكره هو أنه عندما تم إلقاء القبض على باديا واعتقاله كونه اتُهم بأنه عميل للسي آي إيه، كنتُ متواجداً في منزلي في برشلونة برفقة خوان ولويس غويتيسولو وكاستيليت وهانز ماغنوس إينزيسبيرغر، مجتمعين كي نكتب شكوى، احتجاجاً على سجن باديّا. كان قد وقع على تلك الشكوى العديد من المثقفين، وأخبرني بلينيو أنه علينا وضع اسم غارثيا ماركيز، ولكننا قلنا لبلينيو إنه علينا استشارته قبل أن نضع اسمه. لم يكن بإمكاني التواصل معه لأني لم أكن أعرف أين كان متواجداً وقتها، ولكن بلينيو قرر تسجيل اسمه على أية حال. عرفت فيما بعد أن ماركيز احتج كثيراً على ما فعله بلينيو، أما أنا فلم أكن أتواصل معه حينها. بعدما خرج باديّا من السجن وبعد اتهامه واتهام كل من دافع عنه أنه عميل للسي آي إيه، وهو أمر سخيف، كتبنا رسالة شكوى ثانية، وهذه المرة لم يوقع عليها. بعد ذلك تغير موقف ماركيز تجاه كوبا بشكل كامل: اقترب كثيراً وقام بزيارتها (لم يعد إليها منذ أن تم طرده) ومن ثم عاد وظهر في الصور إلى جانب فيديل كاسترو وحافظ على علاقته معه حتى النهاية.

صديق فيديل كاسترو

لم أعرف لاحقاً ما حصل بعد قضية باديا، وكنت قد فقدت التواصل مع ماركيز بشكل كامل. كان طرح بلينيو أنه على الرغم من معرفة ماركيز أن الأمور كانت تسير بشكل سيئ في كوبا، كان يرى دائماً أن أمريكا اللاتينية يجب أن تحافظ على مستقبلها الاشتراكي، وأنه على الرغم من أي شيء، حتى لو كانت الأمور تسير بشكل سيىء في كوبا، فإنها كانت كبش الفداء. كانت الدولة الوحيدة التي كسرت السكون التاريخي لأمريكا اللاتينية، وأن تكون مع الثورة الكوبية يعني أن تقف لصالح المستقبل الاشتراكي لأمريكا اللاتينية. والواقع أنني أرى نفسي أقل تفاؤلاً من ماركيز. أظن أن ماركيز كان يرى الحياة من منظور عملي، هذا المنظور الذي اكتشفه بعد تلك الفترة المفصلية، وقد أدرك أنه من الأفضل له ككاتب أن يقف بصف كوبا وليس ضدها. لقد تحرر من القذارة التي تلقيناها نحن الذين اتخذنا موقفاً ناقداً.

إن كنت تقف بصف كوبا، بإمكانك أن تفعل ما شئت، ولن تتعرض آنذاك لهجوم من قبل العدو الذي يشكل خطراً حقيقياً على كاتب، وهذا العدو لم يكن اليمين بل اليسار. لقد كان اليساريون يتحكمون بمفاصل الحياة الثقافية بجميع أشكالها، وبشكل أو بآخر، معاداة كوبا ونقدها، كانت بمثابة خلق عدو شرس ضدك، إضافة إلى اضطرارك في كل موقف يصادفك إلى تبرير أنك لست عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وأنك لست ضد التطور، وتقف إلى صف الإمبريالية. برأيي كان لعلاقة الصداقة مع كوبا، ومع فيديل كاسترو، دورٌ في حماية ماركيز من كل تلك المشاكل والإزعاجات.

مائة عام من العزلة

أذهلتني رواية مائة عام من العزلة، كنت معجباً بكل أعمال ماركيز السابقة ولكن قراءة هذه الرواية بالتحديد هي عبارة عن تجربة مبهِرة. أعتقد أنها رواية رائعة، غير اعتيادية. بالكاد كنت قد أنهيتها حتى نشرت مقالاً بعنوان «أماديس في أمريكا». في تلك الفترة لم أكن مهتماً بروايات الفروسية وبدا لي أنه ظهرت أخيراً في أمريكا اللاتينية رواية الفروسية المهمة الخاصة بها، حيث يلعب فيها العنصر الخيالي دوراً جوهرياً، ولكن دون إهمال الأساس الواقعي والتاريخي والاجتماعي. كانت هذه الرواية مزيجاً استثنائياً وقد شاركني إعجابي بهذه الرواية جمهور كبير. تتميز الرواية بقدرتها على أن تكون ذلك الكتاب الذي يحمل الكثير من عناصر التشويق لقارئ مثقف ومتطلب، كذلك يمكن أن تكون رواية موجهة لقارئ مبتدئ بشكل كامل يقوم باكتشاف الأحداث وربطها دون أن يبرز اهتماماً باللغة أو ببنية العمل. هكذا بدأتُ، إضافة إلى كتابة الملاحظات عن رواية ماركيز، بتدريسه أيضاً. كانت المرحلة التعليمية الأولى عبر فصل تدريسي في بويرتو ريكو، ثم انتقلت إلى إنجلترا لينتهي الأمر في مدينة برشلونة. وهكذا دون تحضير مسبق للأمر رحت أجمع تلك الملاحظات التي كنت قد كتبتها أثناء تدريسي لماركيز وكانت النتيجة الدراسة التي كتبتها عنه والتي تحمل عنوان «قصة قاتل الآلهة».

شاعر وليس مفكراً

كان ماركيز شخصاً ممتعاً يروي القصص بشكل مذهل، ولكنه لم يكن مفكراً، كان يتمتع بقدرة الفنان أو الشاعر ولم تكن لديه القدرة على التفسير المنطقي لموهبته الكبيرة في الكتابة. كان يكتب مستنداً على قدرته الحدسية والفطرية وحسه الباطني. لم تكن قدرته الرائعة تلك، التي كان يوظفها للاستخدام الدقيق للصفات والحال والحبكة والمادة الروائية، تتجاوز المفاهيم. خلال السنوات التي كنا فيها صديقين، كنت أشعر، في كثير من الأحيان، أنه لا يدرك العناصر الساحرة والمعجزات التي كان يتمتع بها أثناء تأليفه لرواياته.

السلطة

كان ماركيز يشعر بالإعجاب الكبير تجاه رجال السلطة، لم يكن إعجابه أدبياً فقط بل حياً. بالنسبة له أن يكن المرء قادراً على التغيير بفعل النفوذ الذي يتمتع به، هو أمرٌ يشده ويجذبه ويعده رائعاً. كان ماركيز يتوافق مع رجال السلطة، أولئك الذين غيروا ما حولهم بفضل سلطتهم وقدرتهم، سواء كان التغيير إيجابياً أم سلبياً. أعتقد أن شخصية مثل تشابو غوثمان كانت ستعجب ماركيز، بل أنا متأكد أن شخصية غوثمان أو بابلو إسكوبار تثير شعور الإعجاب والذهول نفسه الذي يشعره تجاه فيديل كاسترو أو توريخوس.

المستقبل

هل سيتم ذكر غارثيا ماركيز فقط لكونه مؤلف رواية مائة عام من العزلة؟ أم ستقف قصصه ورواياته الأخرى المشهورة وراء هذا أيضاً؟، للأسف لن نتمكن من الإجابة على هذه الأسئلة، ولن نعرف ماذا سيحصل خلال الخمسين سنة القادمة فيما يخص روايات كتّاب أمريكا اللاتينية، بل إنه من المستحيل معرفة ذلك. هناك الكثير من العناصر التي تؤثر على النزعات الأدبية. ما يمكنني قوله بالتأكيد هو أن رواية مائة عام من العزلة ستبقى حاضرة، ربما ستنسى خلال فترات من الزمن ولكن في لحظة من اللحظات سيتم إحياؤها. ما يجعلني متأكداً من هذا هو غنى هذا العمل. وهذا هو سر المؤلفات الإبداعية، ستبقى حاضرة، قد تغيب ولكن لفترة مؤقتة لأن هناك ما يحيي تلك الأعمال ويجعلها تكلم الجمهور وتغني معرفته كما كانت قد فعلت مع قرائها السابقين.

انفصال

هل عدتُ والتقيتُ بماركيز؟ كلا، أبداً… ها قد بدأنا ندخل في منطقة محظورة من الحديث وأرى أنه من الأفضل أن أتوقف عن هذه المحادثة.. (يقولها ضاحكاً). كيف تلقيت خبر موت غارثيا ماركيز؟ بألم مما لا شك فيه. لقد انتهت مرحلة مع موته كما حدث مع موت كورتاثر أو كارلوس فوينتيس. لقد كانوا كتاباً رائعين وأصدقاءً مهمين أيضاً في مرحلة كانت أمريكا اللاتينية فيها تحظى باهتمام العالم كله. لقد عشنا جميعنا ككتاب في مرحلة كان أدب أمريكا اللاتينية فيها يغني الأدب العالمي. إنه من المحزن جداً أن أتحدث معك الآن وأنا على يقين كامل بأنني الوحيد على قيد الحياة من بين أدباء ذلك الجيل الذين يتحدثون لك عن تجربتهم.

«إلباييس»/ ترجمة: جعفر العلوني


الكاتب : مقابلة أجراها: كارلوسعرانيس

  

بتاريخ : 24/06/2022