غرفة التجارة البيضاوية من المجد إلى الحضيض

ما جرى في غرفة التجارة والصناعة والخدمات بجهة الدارالبيضاء سطات خلال إعادة انتخاب مكتب جديد، يوم الجمعة 23 شتنبر، لا يمكن لأي عاقل أن يقبل مشاهده الرديئة ولا يمكن له إلا أن يتأسف لما وصل إليه مهنيون من المفروض أنهم يقودون عصب الاقتصاد الوطني، لن أعود للوحات السباب وتبادل الشتائم والتعري وكأننا أمام مشاهد أضحت تؤثث شوارعنا أبطالها «مشرملون»، يتجنون على البسطاء والفتيات وكبار السن وعائلات لا تبحث إلا عن الستر والعيش جنب الحائط إلى أن تلقى لله، لن أعود أيضا لمشاهد التهجم وعدم احترام المؤسسات المفروض أن يكون أكبر حاميها هو المنتخب القادم من حزب المفروض أيضا أنه يؤطر الناس ويتقاضى دعما ماليا غليظا على ذلك، سألخص اللقاء وأقول: لا أحد خلال تلك الانتخابات تقدم بنصف ورقة مشروع، تهم النهوض بالغرفة لتسترجع اختصاصاتها المسلوبة وتلعب دورها الطلائعي للدفع بعجلة الأهداف التي رسمتها الدولة، والتي من بينها ومن أسسها أن تصبح الدارالبيضاء، عاصمة للمال والأعمال ونقطة جذب للاستثمار والسياحة وما إلى ذلك لتتحول إلى قوة ضاربة في محيطها الإقليمي والقاري والدولي، لم نشهد ورقة في هذا الباب، لم نر إلا الصياح وأشرس الألفاظ والألبسة تتطاير متراقصة في سماء القاعة، وفهمنا شيئا واحدا هو أننا لاندري حتى سبب خصام هؤلاء ولماذا يتعاركون!؟
عندما نجد أنفسنا كبشر أمام مثل هذه الكوارث لا يسعنا إلا أن نستنجد بالذاكرة، لنمسح هذا الخدش الطارئ في هذا الزمن السياسي، ونؤكد للأولاد والشباب بأن معلمتكهم تلك لم تكن دائما كما شاهدتم، تلكم صورة عابرة بأيديكم تصحيح المشهد في المستقبل استنادا إلى تاريخ ما قبل «الجوطية»، لكن قبل الرجوع إلى الخلف لابد أن نسجل بأن غرفة التجارة والصناعة والخدمات لا مهام حقيقية لها سوى اللغط الذي رأيناه، فيما هناك غرف أجنبية تقوم بالواجب بدلا عنها وفي عقر دارها، منها الغرفة الفرنسية والغرفة الألمانية والغرفة الأمريكية والغرفة الكندية، كلها تتوفر على أحياء صناعية تابعة لها وبها مئات المنخرطين من المغاربة.. وهنا تكمن المفارقة..
سنترك هذه المأساة، ونسافر إلى الوراء وبالضبط إلى سنة 1960، في هذه السنة كان التأسيس المغربي الخالص للغرف ضمن قوانين يحدد أدوارها وعملها وهي قوانين مستقلة عن زمن الحماية.
في السنة ذاتها نظمت أول انتخابات للغرف، وفي ما يتعلق بالدارالبيضاء ستشهد تلك الانتخابات الأولى من نوعها، منافسة شرسة بين اسمين وازنين بالمدينة، ويتعلق الأمر بمرشح الحركة الاتحادية، المقاوم محمد منصور ومرشح حزب الاستقلال رجل المال والأعمال السيد الكتاني، كان الصراع حينها شديدا بين المعتمد على قوة النفوذ الصناعي والمالي والتجاري بالدارالبيضاء، وبين المعتمد على قوة التنظيم النقابي للتجارالصغار والمتوسطين والحرفيين من نفس الفئة، أي أنه كان صراعا بين قوتين مجتمعيتين، يمكن تصنيفهما على أساس تنافس بين مرشح الطبقة الشعبية الحرفية والعمالية، وبين مرشح الطبقة البورجوازية المالية، كانت النتيجة في الأخير هي انتصار كاسح للمقاوم محمد منصور، أي انتصار للتيار الشعبي العمالي الحرفي، فتم الطعن في هذه الانتخابات من طرف السيد الكتاني وتقرر إعادة الانتخابات من جديد، وجاءت النتيجة مزكية وبنسب أعلى لفوز محمد منصور.
طيلة المعركة، وهذا هو المهم، كانت الأخلاق هي المؤطر العام للمعركة وكانت الدفوعات كلها معتمدة على وجهات نظر مدعومة بمشاريع تنتصر للغرفة أولا وأخيرا، وكان الصراع صراع أفكار ومشاريع مجتمعية لتيارات حقيقية كامنة وسط المجتمع، ولم يكن صراع أفراد أو لوبيات أو عصابات، خلاف واختلافات كانت نموذجا لصراع حضاري تنافسي، يحترم فيه المتنافسون أنفسهم ومصداقيتهم ومؤسستهم … بعد ذلك أنتجت هذه الغرفة نخبة عالية يحترمها الجميع تقلدت مسؤوليات في دواليب الدولة، كما كانت الغرفة هي من وضعت الحجر الأساس لإحداث المعهد العالي للتجارة والمقاولات «إيسكا أوه»، وهو أرفع معهد على الصعيد الإفريقي الذي ينتج نخبة الاقتصاديين وصفوة المسيرين الإداريين والماليين إلى حدود اليوم…فشتان بين صراع وصراع ورجال ورجال…
في عهد الحماية، تأسست غرفة التجارة وكانت تضم حتى قطاع الفلاحة وعين أعضاؤها من طرف المقيم العام ليوطي في سنة 1913، ولكنها لم تشهد أوج حيويتها إلا في سنة 1935 رغم تأثير الحرب العالمية، كانت في كل شهر تصدر مجلات قطاعية، فالأرشيف يحيلنا على مجلات فلاحية متخصصة من إصدار الغرفة، تتضمن قوانين تعين الفلاح ومستجدات السوق وكيفية الزيادة في المنتوجات الزراعية ورؤوس الأبقار والأغنام والدواجن وغيرها، وتحيله على أهم المواد المتطورة التي تساعد على توفير محصول زراعي وفير وتتضمن مقالات علمية تحليلية وآراء وغيرها، حتى أصحاب ورشات الميكانيك كانت لهم مجلتهم الخاصة تخبرهم بما استجد في القوانين والصناعات التي تم اختراعها أوقطع الغيار والزيوت التي استجدت في السوق، وغيرها من المواضيع التي تهم هذه الحرفة، أيضا أصحاب المطاعم والمقاهي كانت لهم مجلاتهم، وكذلك الشأن بالنسبة لباقي القطاعات … اليوم نتحدى الغرفة إن كانت قد صنعت شبه أرشيف!


الكاتب : العربي رياض

  

بتاريخ : 30/09/2022