غزة ..القصيدة لي، فقط، يدان لأكتب

احتفاء باليوم العالمي للشعر الذي يصادف 21 مارس من كل سنة، كتبت السنة الماضية (2024) أن» حرب غزة، قطعا، ليست هي الطبعة الأخيرة من الحرب»، واليوم يتأكد أن العالم بعد «غزة 7 أكتوبر» ليس هو العالم قبلها، وأن الإنسانية تقف اليوم على مفترق طرق حاد القسمات بين صناعة الموت و»زراعة النجوم في حوض نعناع» .
غزة القصيدة هي امتحان جديد لما تبقى من إنسانية العالم ومصداقية القيم التي تنحو إلى زوال، لولا بصيص أمل وضوء خافت في آخر النفق في حناجر الشباب ممن وعوا القضية وانتصروا للحق وللحياة ضدا على حكوماتهم التي تبارك المحرقة.
هل كان اختيار شعار «الشعر من أجل السلام والوحدة» لتخليد اليوم العالمي للشعر (2025) صائبا؟ هل ما زال بمكنة الشعر والشاعر أن ينقلا كل هذه الفيوض من لغة الحواس والأجساد التي تصرخ دماؤها في غزة؟ أي لغة بمقدورها أن تترجم هذه التراجيديا الإنسانية المكتوبة بالدم ونحيب الأطفال الذين يكبرون في صدر النار، والأشلاء المتناثرة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص ومنطق القوة؟ وحيث كل هدنة اختبار إيجابي للهشاشة، واستراحة محارب متعطش للدم، في أبشع صور الكانيباليزم. حرب لا تكاد تختفي حتى تظهر مرة أخرى بتوحشها وقدرتها على التهام الذكريات، والوجوه والأمكنة والروائح.. حرب تقتل سوسنة الروح، وروح السوسنة.
هل يفيد الشعر في «أرض بدماء كثيرة».. «أرض تتذكر قتلاها» كما كتب الشاعر محمد بنيس.. أرض تنبت فيها القنابل بدل الأشجار. وهل مازال الشعر قادرا على تفكيك خطاب الحرب وعلى كتابة نفسه بشكل مختلف يلتحم فيه مع الألم الإنساني الأكبر الذي يواجهه العالم في مواجهة منطق القوة والهيمنة؟ كيف للكتابة أن تحتفظ بقدرتها، وسط هذه الدماء والأشلاء، على مجاراة الذي يحدث ووصفه وتحويله إلى مجازات وصور؟
الشاعر في فلسطين لم يعد يأوي إلى بيت من حجر، صار بيته من حروف .. حروف تجعل للمأساة شكلا ووجودا شعريين.. تبني جدارا عازلا بين الخوف من حياة مؤقتة، وموت مؤجل.
لم يعد يملك إلا الكلمات، كما عبر عن ذلك الشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين حين كتب:
«إنها الحرب / ما حيلتي/ ليس في قدرتي أي شيء لأمنعها/ ولست قوياً كما قد يخيل لي/ كي أضيف إلى نارها جمرة واحدة/ أنا الكلمات ..ا ل ك ل م ا ت».
الشعر ينكتب بالروح وسط حيادية صامتة، ينكتب كبناء مواز للألم والمأساة .. ينكتب حتى لا تتعفن الأرواح أكثر، وكي يجلي كل هذا الغبار العالق على وجه الأرض التي غارت ملامحها من كثرة النزيف. نزيف الأماكن والتاريخ والأرواح التي تتساقط كالغبار «من نجمة ميتة» ، نزيف السماء الرمادية وقد ارتدت لون الكارثة.
لا أحد ينجو من الكارثة، الذين يستظلون بسمائها ويعيشون في اشتباك مكثف مع الموت في انتظار الحياة، أو نحن البعيدون / القريبون في مكان آمن .. لكننا لسنا بخير. نحن أيضا جزء من المشهد. إنسانيتنا تذبح ويذبحنا أكثر شعورنا الضاغط بالعجز .. العجز حتى عن الكتابة أمام سادية الوحش ورعب التوحش.
قد يبدو الاحتفال بالشعر، وسط هذه التراجيديات السوداء، ترفا زائدا ، لكنه ضرورة لأنه الوحيد الذي لايزال مرابطا على جبهة المقاومة، موغلا في إنسانيته أمام الحرب التي تخاض اليوم بأشكال وبأدوات جديدة.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 22/03/2025