لم تختر الفنانة التشكيلية المغربية فوزية جعيدي عنوان «غضب الطيور» للوحتها اعتباطا، بل جعلت منه تعبيرا مجازيا يحيل إلى الشعور بالتهديد والغضب الذي تبديه الطيور دفاعا عن نفسها وعن عشها. وإذا كانت الطيور تهاجر بحثا عن مكان آمن ودافئ وظروف أفضل للبقاء، فإن كثيرا من البشر يجبرون على الرحيل بعيدا عن أوطانهم لأسباب لا يد لهم فيها. من هنا يكتسب العنوان بعدا إنسانيا عميقا، إذ يعبر عن انفعال داخلي يأتي غالبا كردة فعل على واقع مؤلم.
في هذه اللوحة، التي يتقاطع فيها الموقع والزمان، اختارت الفنانة تكوينًا مستطيلا لإضفاء شعور بالاتساع، مع اعتماد أسلوب يتأرجح بين التجريد الحر والتعبير الرمزي. فهي تمزج بين العفوية في الخطوط والألوان الجريئة، وبين الخيال الذي يحول الفكرة إلى مشهد بصري ملموس، حيث تتقاطع ثنائية الضوء والظل لتمنح المشهد عمقا بصريا مؤثرا. وتبدو المساحات المملوءة كأنها تعوض الفراغ الذي تركته الطيور في هجرتها، فيتحول المشهد إلى صرخة بصرية مفعمة بالألم والمرارة، إذ تظهر الطيور وكأنها ترقص على إيقاع الموت قبل أن تهوي وتسقط على أرض قاحلة.
منحت الفنانة لهذه الأرض لونا دمويا قاتما بصبغة تراجيدية، تحيل إلى مكان يعيش دمارا حقيقيا يراه العالم بأسره ويشهد عليه. رسمت فوزية جعيدي هذه المأساة بخيوط من الأكريليك النازف على قماش يحتضن مشهدا تملؤه الجوارح الانتهازية التي تقتات على الجثث، في مشهد يخاطب الضمير الإنساني ويعكس التزام الفنانة الأخلاقي والوجداني.
ولتخفيف وطأة المشهد، قامت أثناء عملها على اللوحة بتقطير لون أبيض على سطحها، فتحول إلى بقع صغيرة تتسلل بين الخطوط، لتبث بصيصا من الأمل وسط العتمة.
هكذا، تنبع من اللوحة فلسفة فوزية جعيدي القائمة على الإيمان بأن من قلب الظلام يولد الضوء، وأن الغضب، مهما بدا جارحا، يمكن أن يتحول إلى فعل مقاومة وإصرار على الحياة.
يظهر حضور الفنانة في العمل من خلال لمساتها الإيمائية القصيرة وضربات فرشاتها القوية، التي تكشف عن عقلية منظمة وفكر بصري ناضج. فهي فنانة تعرف كيف توظف الخطوط والمساحات، وتوازن بين الاقتصاد في اللون والجرأة في التعبير، بما يعكس تماسك رؤيتها الفنية وانسجامها مع موضوعاتها.
ولا تخلو اللوحة من حمولة رمزية كثيفة، إذ تبدو الألوان الثلاثة الرئيسية ــ الأزرق البارد والأسود والأحمر القاني ــ بمثابة معجم دلالي بصري: فالأزرق يوحي بالجمود واللامبالاة، والأسود يمثل الجانب المظلم للعالم، بينما الأحمر يثير التقزز والعنف، ليعكس صراع الإنسان مع ذاته ومع واقعه. غير أن الضوء المنبعث من الخلفية يمنح العمل توازنا جماليا وأخلاقيا، ويذكر المتلقي بأن الغضب غريزة والدفاع عن النفس حق فطري يمكن إدراكه بالتأمل.
تجربة فوزية جعيدي تكشف عن فنانة ملتزمة وباحثة متعددة المواهب، تعمل مصممة نسيج بمدينة الدار البيضاء، وقد استهواها الرسم منذ طفولتها داخل بيت نابض بالفن. درست بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، ما أكسبها تكوينا أكاديميا رصينا يجعل أعمالها بعيدة عن الارتجال والعشوائية. إبداعها يستلهم الملاحظة والرصد، ويعكس وعيا فكريا وجماليا يجعلها تشارك بانتظام في معارض فردية وجماعية داخل المغرب وخارجه، بأسماء مثيرة تعبر عن مواقف فكرية وإنسانية واضحة.
من خلال لوحتها «غضب الطيور»، تؤكد فوزية جعيدي أنها فنانة تحمل رؤية ورسالة، وتؤمن بأن الفن التشكيلي ليس ترفا، بل صرخة ضمير وصيغة مقاومة في عالم يزداد قسوة ولامبالاة.
غضب الطيور.. مأساة إنسانية بريشة الفنانة فوزية جعيدي

الكاتب : عبدالسلام صديقي
بتاريخ : 08/10/2025