غواية الشعر … قراءة في ديوان «عطش يشتهيه الماء» للشاعرة روجينا محمد الفركالي


اختارت الشاعرة روجينا محمد الفركالي في ديوانها « عطش يشتهيه الماء « البوح، ليسمو بها ويحملها إلى الضفة المقابلة، ورغبة منها في تكسير جدار الصمت السميك، الذي بالغوا في ترصيصه وتقويته، من أجل تكريس ثقافة طال النسيان زهوها وسطوعها. فشكل لها الشعر الغواية والانجذاب نحو الحلم، نحو الانعتاق من أجل الصراخ بشكل مغاير يختلف عن الدموع والانتحاب، اللذين كانا سمة ميزت أجيالا تخلفت عن كتابة مصيرها، ورضيت بالمفروض والمتاح. يجلو ذلك نفسه بالصفحة: ( 98)، حين عبرت الشاعرة عن ذلك الخنوع بما يلي: «مازلت أقتات الخبز،،.. ليعش الصبر.. !».
جاء البوح كنتيجة حتمية لصراعات داخلية واحتقانات خارجية، يمكن اعتبارها استنباطا واستنتاجا لما حدث ويحدث، ونتيجة لاختيارات قد تحتمل الصواب أو الخطأ. لذا تعاملت الشاعرة مع النصوص باعتبارها باكورة خليط من التجارب الذاتية والاجتماعية، امتزجت لحظة الإبداع والنظم، مع الإيمان بأن النص كيفما كان شكله يُنتج صورا متعددة في ذهن المتلقي. لذلك اعتمدت في رسم مقصدية النصوص على الصور الشعرية، التي تنطلق من الخيال الاسترجاعي الذي يعتمد في اختياراته لمواضيع تعانق وتجاور التجارب الذاتية، على الذاكرة الانفعالية، لصبغ النصوص بلون لواعج عاشت الأحداث المعبر عنها، وكانت الدافع والمحرض على البوح، ثم إبداع أخرى باستعمال خيال توليدي يجنح نحو إنتاج صور جديدة، للابتعاد عن النمطية والاجترار، عبر خلق عالم افتراضي يُجلي ما يعتمل بالدواخل، وما ترصده العين الشاعرة بأشكال مختلفة. لكن رغم ذلك ظل الانزياح نحو الاختلاف والتميز مرتبطا بالواقع الفعلي، أي الابتعاد عن الغموض والغرابة، وإعادة كتابة المعاش بتداع وتلقائية وحرقة، انطلقت من المشاعر، من آلام مكدسة تشتعل بالعمق. جاء صوت المتكلم/ المتكلمة حاضرا بقوة داخل القصائد، فأرخى ظلاله على اللغة، التي اختيرت بدقة لتناسب المضامين ومقصدية النصوص، فأتت متجانسة مع الخطاب الذي تحمله، ومكنته من الوصول إلى الهدف/ المعني التي من أجلها أنتج الديوان.
أول ما يعّن للقارئ في ديوان « عطش يشتهيه الماء» للشاعرة روجينا محمد هو العنوان نفسه. مركب بتوليفة تجنح نحو الغرابة. الطبيعي والمتداول هو أن العطش هو الذي يشتهي الماء، ليرتوي الظمآن وتستمر الحياة، لكن العكس خروجا عن المألوف وتجاوزا للمعتاد. فماذا لو كان العطش يشير إلى الذات ؟ باعتبارها دائمة الحاجة إلى الماء لتبدع مختلف أشكال الحياة، وبالتالي يصبح الماء هو الروح التي تنعش وتجلي الذات في مختلف تمثلاتها.
أُنتجت الأضمومة الشعرية من خلال الاعتماد على أحاسيس تلامس العناصر الطبيعة المختلفة، ومحتويات البيئة المحيطة، وما ينتج عنها من تشكلات اجتماعية وتفاعلات إنسانية، لتعيد كتابة الحياة بركوب الحلم الذي يقرب البعيد، ويبني المستحيل. وبذلك يكون عطشا يشتهيه الماء إلا أنه لا يرويه، بل يزيده ظمأ وشوقا للكلمة الجميلة الطيبة التي تحمل معنى وتُخلق لهدف. فكانت الكلمات و الجمل التي تؤثث الفضاء الشعري فيضا من المشاعر، نثرتها روح الشاعرة على البياض لتكتب شعرا ينطلق من الوجدان، كبركان يثور من شدة الوجع.
عناوين النصوص التي تؤثث الديوان تعكس البعد الدلالي، الذي من أجله رتبت وصففت لتتوالى كأمواج متتالية الدفع، تتسارع إلى بر الأمان في محاولة للإمساك بالحلم.
سألت العناوين، فأجابتني بتوليفة توحدها وتجعلها تنطق بما اختزلته تراكيبها.
ذلك المغرور يسأل «من أنا» 1؟ قل له: أنا « عطش يشتهيه الماء»2 أنا خروج عن المألوف، أنا حيرة تصاحب السؤال. حين «أتذكر»3 أفكر فيك وأجدك «خارج المجرة»4، فأفر من طيفي لأختبئ في أكمامك. لا أبخس نفسي حين أعلن حبي فأنا أعرف قدري. أنا الطاهرة « طهر البتول»5، أتبرع بقلبي وروحي للقِبلة لكن، حين أحب أغرق مبتلة. «ابتعدت»6 حين غدا الحب سحابة سوداء، سافرت عنها السماء. ازداد الشوق تعسفا عليّ، فأطلقت « لوعة»7، حُرقة أشعلها غياب الحب لدى الإنسان. قررت أن أفرغ همي، أن أكتب آلامي، فتساءلت أ أكتب «رسالة إلى رجل مشغول»8؟ هل سيفهمني ؟ احترت، لكن كتبتها. كتبت: «يا صاحبي»9 اعتقدت لزمن طويل أنني أتحكم في قلبي، لكن حين تحسست حيث نسيت مشاعري عالقة، أدركت أني أحب رجلا مشغولا، فلملمني من حيرتي، من مكابرتي وكؤوس مرارتي، إن كنت تحبني، ولا تجبني كعادتك، ب «دندنة»10 وكلمات هامسة غير مفهومة.» اشتقت إليك»11 ورغم جفاك أقول لك ب» كبرياء»12 لو كان الحب رجلا لقلت له: « يا سعادة الحب»13 رفقا بي، ضمني ولا « تسألني من أنتِ»14 فقط « أعطني الحب»15 وستجدني مسرعة «إليك»16 فقد «أَذّنَ اللقاء»17 و نكون قد «اقتربنا»18 من فهم طلاسم السحر ويعود قلبي للنبض، وتشع سمائي.
ديوان « عطش يشتهيه الماء» منجم للمشاعر الفياضة التي يحركها الألم. يجليها بعدما هدها الصبر والحلم بالأفضل، بذلك التغيير الذي ينعش الذات ويخلق الأمل، ويمنحها هدفا للعيش وللاستمرار في الحياة، هو سجل حافل بانتظار الحبيب الذي يعانق ويجاور في الطريق نحو الحلم، بالكبوات، بخيبات الأمل، التي ابتدأت ورودا وانتهت أشواكا، أدمت القلب وحرضت على البوح، فكان الشعر إنصاتا للوجود وللجوارح، والتعامل بتلقائية في سرد الحكي بالحلمِ تارةً، وبإسقاط الحالات النفسية التي تعيشها الذات الشاعرة في واقعها تارةً أخرى. بذلك تكون معرفتها عن العالم الخارجي ليست وصفا للواقع كما يبدو، ولكنها إعادة بناء المكتسب وفق نظرتها الخاصة، أي نسيجا ممزوجا بالانطباعات الحسية، والقدرات الإبداعية التي شكلت الحمولة المعرفية للنصوص، بمضامين متباينة تنفتح على تأويلات مختلفة.
جل مضامين النصوص حتى تلك التي أودعتها مبادئها واختياراتها وأفكارها، وما يجري من أمور دنيوية تتقاسمها مع المجتمع الذي تنتسب إليه، مستوحاة من ذاكرتها الانفعالية، ليس لاكتساب عطف أو تأييد، ولكن للآثار الغائرة التي خلفتها تلك الأحداث التي تداولت وتتداول بأشكال نمطية. يجلو ذلك بقصيدة «رسالة إلى عمر بن الخطاب»، التي هي عبارة عن موقف وتعبير عن واقع اختلت موازينه، بين الأمس واليوم. بين الأمس الحافل بالانتصارات وما آل إليه حال الإنسان العربي الذي رضي أن يتحول إلى بيدق في لعبة تُحرك من بعيد. على نفس المنوال سارت قصيدة خارج المجرة. وهي إعلان صريح عن عدم اهتمام العربي لما يروج من حوله وفي العالم، وما يحاك من مؤامرات في السر والعلن. منتش غارق في الملذات. يعيش خارج المجرة. ولإبقائه خارج اللعبة يتم الهجوم عليه بمختلف الأسلحة خاصة الإعلامية منها التي تطمس الحقائق وتمده بسيل من الأخبار الزائفة. يظهر ذلك في الصفحة (12)
خارج المجرة..
1
مساؤك أمل أيها المشاهد البطل
هُنا قناة الحزيرة الأصل
التي إن أخبرتك بما حصل
فقد حصل…
2
طارت السمكة
سبح الفيل
غرد الحمار فوق الجبل
والجمل في عين الإبرة قد دخل.

«تركتك» قصيدة تتميز بضمها لمشاعر بحجم الجبال. كبرياء وحب وشوق وعتاب للحبيب، وابتعاد يكبر معه حجم الحنين إليه. الشاعرة مغتربة، وتحترق شوقا إلى رجل رسمته في مخيلتها بأشكال مختلفة، بعدما تركته وهي تعلم أنها موعودة بنزال مع الحرمان، تركته وهي خائرة لا تسند بعضها، ومع ذلك تحبه بجنون ويسكن تفكيرها باستمرار. هذا النوع من الحب بهذا الحجم أكبر من أن يوجه لإنسان بعينه. إنه حب الوطن، الذي أرغمت على هجره، حاضر بقوة في تفكيرها وكتاباتها. القصيدة في معناها العميق، وإن كتبت لرجل، فهي شوق للوطن، ولمن خلفت وراءها برحيلها واختيارها للغربة. نستنتج ذلك من خلال ما يلي:
تركتك
رغم وحدتي،
ورغم رعاف الحزن
المائج في صدري
والذي يمضي للحتف بعُمري
مازلت أصلب قلبي على جسد الصبر
كي يبقى لك..!
مازلت أهذب القلق
حين أخاطبك..!
مازلت ألعق دمعتي
بلسان مكابرتي كي لا أسقط أمامك..!
وأعلم أنني إن سقطت
لن أجدك..! (ص.. 73)

تأسيسا على ما سبق، يمكن القول بأن ديوان « عطش يشتهيه الماء» للشاعرة روجينا محمد الفركالي، يضم مشاعر جياشة وأحاسيس صادقة أكسبته قوة ضاغطة. دونت من خلالها همومها وأحزانها وانشغالاتها. انطلقت من الوجدان فكان إهمال الزمن والمكان مقصودا، حتى تخترق القصائد الحدود الوهمية، وتصير صالحة لكل الأزمنة. اعتمدت على لغة بسيطة قوية قريبة من المتداول لتحمل معان متعددة، ويسهل تمريرها للمتلقي بشكل عفوي، دون الحاجة إلى جهد كبير.
رسم الديوان بكلمات تمجد الحب والأحاسيس النبيلة الصادقة، اختيرت من معجم الحياة، ومن الموروث الثقافي الإنساني، وأيضا بمعان تجسد أفكارها وتصوراتها ومبادئها، التي كرست حياتها في نحتها وتطويرها. لذلك كتبت القصائد بكبرياء يخفي رهافة الإحساس، وشوق وحنين إلى حياة سابقة، ظلت حية تتنفس بدواخلها، رغم البعد واختيارها الغربة كحل أرهق النفس، فكان الشعر متنفسا وحلا ظرفيا لا أكثر.

**********
° عطش يشتهيه الماء، ديوان شعري صدر عن مطابع الرباط نت / 2015.
° من 1 إلى 18عناوين القصائد بنفس ترتيبها داخل الديوان.
° روجينا محمد الفركالي شاعرة سعودية تعيش بالمغرب .


الكاتب : عبد العالي أناني

  

بتاريخ : 26/09/2020