في الوقت الذي تتعالى فيه الخطابات الرسمية حول «التمكين الثقافي للشباب» و»الدبلوماسية الموازية»، وتحت شعارات الانفتاح والتقارب الإفريقي-المتوسطي، تعيش المخيمات الدولية المغربية، التي كانت لسنوات طويلة منبرا حيويا للتبادل الثقافي والتربية المواطنة، أزمة عميقة تكاد تمحو هذا التراث الوطني من الذاكرة الجماعية.
إن اختفاء هذه الفضاءات التربوية الدولية ليس مجرد غياب فيزيائي لمراكز استضافة أو فعاليات، بل هو إعلان صريح عن تراجع الإرادة السياسية وتعثر الاستراتيجيات التي كانت تُمثل رافعة أساسية للدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية الناعمة للمغرب في محيطه القاري والدولي.
أولا: بوزنيقة .. القلب النابض الذي توقف عن الخفقان
لم تكن بوزنيقة مجرد مركز تخييم عادي، بل كانت رمزا لنجاحات الدبلوماسية التربوية المغربية التي احتضنت لعقود شبابا من شتى أصقاع العالم، منصة للتلاقي والتفاهم، ومختبرا للمبادرات التي شكلت هويتها ودفعت المغرب في موقع ريادي على الصعيد الدولي. لكن إغلاق هذا المركز في 1996، ومن ثم التفويت في أرضه وتحويله إلى منتجع سياحي فاخر، لم يكن سوى فعل مدمر يشي برهان واضح على إهمال قيمة الفضاءات العمومية التربوية، وتراجع الدولة عن مسؤولياتها الاجتماعية في مواجهة مصالح الربح والاستثمار السياحي.
بعد أكثر من ربع قرن، أعلنت الدولة عن افتتاح مخيم وطني جديد سنة 2023، لكنه يبقى بعيدا كل البعد عن استعادة رمزية بوزنيقة أو تعويض الخسارة التاريخية التي طالت الذاكرة الوطنية لعمل تربوي دولي رائد.
ثانيا: البلاغات النضالية.. صرخة في واد التخلي الرسمي
لم تخلُ الساحة التربوية من صوت نقابي ومجتمعي ينبه إلى هذا الواقع المرير، فبلاغات اتحاد المنظمات التربوية في يونيو 2025 مثلت تحذيرًا شديد اللهجة من مخاطر تفويت مراكز الطفولة والشباب، واعتبرت هذا المسار بداية لتدمير مكتسبات تاريخية بُنيت عبر نضالات طويلة للحركة الجمعوية.
هذا التحذير ليس مجرد نداء، بل هو استنطاق جاد لمسؤولية الدولة والفاعلين الرسميين، ودعوة لإعادة النظر في السياسات التي تركت فئة الشباب عرضة للإقصاء والحرمان من فضاءات تربوية حيوية.
أ- الهرهورة وأكادير.. تجارب عابرة وأفكار متلاشية
أما تجارب الهرهورة وأكادير، فكانت محاولة مؤقتة لخلق فضاءات دولية شبابية تناولت موضوعات اجتماعية وحقوقية مهمة، لكنها لم تحظ بالدعم اللازم للاستمرارية أو التوسع.
غياب رؤية مؤسساتية واضحة، وضعف التمويل، ومحدودية المشاركة الرسمية، كلها عوامل أفضت إلى انطفاء هذه التجارب، مما يدل على تراجع الالتزام الوطني تجاه مخيمات الشباب الدولية التي يجب أن تكون أدوات فاعلة للدبلوماسية الشعبية والتربية على المواطنة والانفتاح.
ب- التعاون الإفريقي.. عطل في مسار التفاعل الاستراتيجي
في ظل التحولات السياسية والاقتصادية الكبرى التي يشهدها المغرب، ومنطقه الإفريقي الذي يشكل عمقه الاستراتيجي، كان من المنتظر أن تلعب المخيمات الدولية دورًا محوريًا في ترسيخ علاقات جنوب-جنوب، وتعزيز التواصل الثقافي والتربوي بين الشباب المغربي ونظرائهم الأفارقة، لكن الواقع مغاير، حيث توقف الدعم العمومي وتلاشت المبادرات الفاعلة، مما أضعف هذه الشبكات الحيوية، وأصبح التعاون التربوي الإفريقي يعاني من جمود، مع عجز السياسات العمومية عن إيجاد بدائل استراتيجية للحفاظ على مكتسبات الماضي.
ثالثا: ثمن الغياب.. خسارة في القوة الناعمة وصورة الوطن
غياب هذه المخيمات الدولية هو خسارة استراتيجية للدبلوماسية الناعمة المغربية، التي لطالما شكلت أحد أهم أدواتها في صناعة صورة المغرب كبلد مفتوح ومتعدد الثقافات، ملتزم بالتربية المدنية والانفتاح على العالم. كما أن حرمان الأجيال الجديدة من فرصة الانفتاح على تجارب عالمية آمنة وموجهة، في زمن الرقمنة الذي قلص المسافات وزاد الحاجة للحوار الثقافي، هو إضعاف لمستقبل الشباب وقدرتهم على لعب دور فاعل في مجتمعهم والعالم.
رابعا: الربط بالدينامية الوطنية والرياضية والسياحية: ضرورة استراتيجية للمخيمات الدولية
يشهد المغرب اليوم تحولات مهمة على الصعيد الرياضي والاقتصادي، إذ يستعد لاستضافة كأس العالم العالم 2030 وكأس افريقيا 2025، ويشهد تنظيمًا متناميًا لمناسبات رياضية دولية ومحلية في مختلف الرياضات تبرز قدراته التنظيمية وتجمع أعدادًا متزايدة من الرياضيين والجماهير من مختلف أنحاء العالم.
كما يتزايد عدد السياح الوافدين على المغرب، مع تسجيل أرقام قياسية في السياحة الثقافية والبيئية والرياضية، مما يعكس دينامية تنموية شاملة تضع المملكة على خريطة الوجهات العالمية الجاذبة.
في هذا السياق، يصبح تعزيز وتطوير المخيمات الدولية للطفولة والشباب ليس ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل ضرورة استراتيجية تتوافق وتتكامل مع هذه الديناميات الوطنية، من أجل تمكين شباب المغرب من الانخراط الفاعل في هذه الحركة الدولية، وتوفير فضاءات تربوية وثقافية ورياضية متجددة تعزز مكانة المغرب كبلد يحتضن ويُنمّي الطاقات الشبابية الوطنية والعالمية على حد سواء.
إن بناء شبكة مخيمات دولية قوية ومستقلة، مرتبطة بهذه المحطات الكبرى، يشكل رافعة أساسية للدبلوماسية الموازية، ويساهم في دعم الاقتصاد الاجتماعي والثقافي، ويفتح آفاقًا أوسع للتبادل والتواصل الحضاري بين الأجيال.
خامسا : ماذا نفعل؟ نداء للتحرك ومسؤولية وطنية
لن يتحقق التغيير إلا عبر إرادة سياسية واعية ومسؤولة تضع إعادة الاعتبار للمخيمات الدولية كأولوية وطنية، من خلال:
– إعادة تأهيل مركز بوزنيقة، واستعادة رمزيته الوطنية والدولية.
– تطوير تجارب الهرهورة وأكادير، وتحويلها إلى مراكز متجددة ومتواصلة.
– صياغة استراتيجية وطنية شاملة لتعزيز المخيمات الدولية كرافعة للدبلوماسية الشعبية.
– تبسيط إجراءات الشراكة أمام الجمعيات والمنظمات الفاعلة.
– بناء شبكة وطنية للمخيمات الدولية تضمن التنسيق والتعاون الدائم.
في الأخير نقول أننا لا نتحدث عن مجرد فضاءات، بل عن فكرة وثقافة ورؤية تربوية تم تهميشها، وجيل حُرم من الانفتاح الحضاري في فضاءات آمنة وموجهة.
إن إعادة إحياء المخيمات الدولية ليست ترفًا، بل خيار استراتيجي حتمي لاستعادة دور الطفولة و الشباب المغربي كفاعل مدني وموصل بين الثقافات، ورؤية تدعم بناء مغرب الحداثة والانفتاح.