غيثة الخياط: أية طرائق جديدة للتفكير، ما بعد كوفيد 19؟ 3/2

أمدتني الكاتبة غيثة الخياط، مشكورة، بهذا النص في أصله الفرنسي، لنشره، معربا، بجريدة الاتحاد الاشتراكي. وحررته خلال فترة الحجر الصحي. ذكرتنا الخياط بالعودة المتجددة لقراءة الفلسفة الرواقية الجائحة ذاتها أفقا للتفكير والتفلسف وانتزاع حق التفكير الذي ما زال حكرا على الغرب..

كشفت هذه الجائحة، عن منعطف حاسم في الفكر المعاصر، الذي لم يخرج من الترديد، بفعل الانقسامات التي ميزت المثقفين النقديين. فقبل أربعين عام مضت، وصف ميشيل فوكو التأميم البيولوجي باستبصار استثنائي … وهو الذي فكر كثيرا في العزل والانغلاق القسري، إذن، على الحجر الصحي الذي يمكن أن يظهر كتلميح لكنه في الواقع، عزل حقيقي (المصدر غيثة الخياط، الجنون. العنق. الدار البيضاء. إيديف 2000)
هذه الأزمة هي أولا حدث بيو-سياسي لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم برمته. لكن ما هو البيو-سياسي؟ إنه الفكرة القائلة بإن السلطة لا تمارس فقط على المواطنين القاطنين بالمدينة، بالمعنى الإغريقي القديم polis (ومنها جاءت كلمة ميتربول) لكن على الحياة bios في اليونانية فهي لا تشمل الحياة المدنية فقط بل تمتد أيضا إلى الحياة البيولوجية، لا تكتفي في مفعولها على الجسم الاجتماعي، لكن هذا المفعول يصل أيضا إلى الجسد الفيزيائي، أي إلى عضوية كل فرد يؤلف مجتمعا ما.
البيو-سياسة حين تكون أساليب السلطة والمعرفة مراعية لسيرورات الحياة، ومبادرة لتغييرها ومراقبتها، (ميشيل فوكو صائغ هذا المفهوم كما شرحه بكيفية نموذجية لا سيما في كتابه « إرادة المعرفة» غاليمار، 1976) بعزل المرضى العقليين المبعدين، على متن السفن الشراعية، تحملهم فوق مياه الأنهار حتى تتخلص منهم المدن (ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) من عزل البرصان المحكوم عليهم بالإعدام المدني، وأحيانا أيضا حضور سيمولاكر دفنهم، قبل أن يصابوا بالجذام، مرورا بمراقبة بيوت المصابين بالطاعون، من الإنسان-الآلة l’homme-machine إلى رغبة المستبدين المتنورين بالنسبة للإنسان الآلي في القرن الثامن عشر، « يؤخذ الجسد داخل السلطات المتصلبة القائمة على سياسة الإكراه» ( المراقبة والعقاب، غاليمار، 1975).
يبقى لفكره فعالية مذهلة لفهم ما يجري في أيامنا، مثلما هي دقة تحليلاته المتوقدة! لذلك فإن الفيلسوف الإيطالي «جورجو أغامبين» لاسيما أنه امتداد لتخمينات فوكو وحدوسه في «الإنسان المقدس» (سوي 2015) تمرد تمردا كبيرا على حالة الطوارئ الصحية التي فرضتها الحكومات الأروبية لمحاصرة الوباء. السؤال الذي لم يستطع أحد الجواب عنه، على خلاف تنظيرات علماء الأوبئة، هو معرفة عدد الوفيات في العالم في غياب الحجر الصحي الذي فرض، واستهدف ما يقرب من خمسة ملايير فرد. أسيكون فقط الخمسمائة ألف المحصيين عند متم يونيو 2020، بزيادة عشر مرات، مائة مرة؟
تعود البشر كثيرا على العيش، في حالة الأزمة طويلة الأمد، إلى درجة أنهم يبدون غير مدركين أن حياتهم اختزلت في وضع بيولوجي صرف، فهي لم تفقد بعدها السياسي فحسب، بل ضيعت أيضا كل بعد إنساني، على كل حال ففي البلدان الرأسمالية أو الغربية؛ فالفرق بين الوضعية الحالية و البيو- سلطة الحديثة le biopouvoir يستلزم كون الصحة إلزاما قانونيا يلزم الوفاء به؛ لأن الطب أصبح دينا جديدا، في الدول الغنية على أية حال.
كل الحريات يمكن أن تبقى محدودة، كل الحياة العاطفية الاجتماعية السياسية متوقفة بذريعة البقاء. في الواقع، بوصفي طبيبة، الحياة مقدسة وتستوجب الحرص على العناية بها، بصرف النظر عن عمر المرضى، وحظوظهم في العيش والبقاء، والإمكانات المتاحة للشفاء، وقدرتهم، وإرادتهم ورغبتهم لبلوغ ذلك، وتطلعات عائلاتهم. المرض يستلزم العلاج لأنه مجرد إنذار يصدره الجسد. العلاج حق وحالة من المفروض أن تمنح لكل واحد وللجميع؛ لأن التداخل حاصل بين الكل: احترام الغير مسألة حيوية وإلزامية، بعيدا عن القسر والإكراه. ولن يكون هذا إلا عدلا، وهو ما تنكره بعض أنماط الفكر والإيديولوجيات.
يؤكد أشخاص في وضعية معاناة نفسية أن الحياة ليست غاية في ذاتها وأن العيش والبقاء ليس هو الحياة الحقيقية، إلا أنها تبقى مواقف فلاسفة تتعارض مع المبادئ ذاتها للعلم والطب. يرى البعض بقلق، تحول المجتمع إلى مستشفى ضخم معقم، حيث نتحصن ضد الغيرية نفسها، وإن كانت إلا صيغة صحافية غير أنه ينبغي أن نعلم ملايين الاشخاص كيف يناضلون للمطالبة بالحق في الصحة، على الأقل، في تطبيب جيد، وضمان علاجهم وفق مبدأي المساواة والعدالة الاجتماعية.
الكلفة ثقيلة جدا عندما « ينظر إلى الآخر كتهديد أو حامل للعدوى، فهذا إقصاء للقريب وإلغاؤه».
تكشف الجائحة، بجلاء، أن حالة الاستثناء صارت وضعا عاديا لفرض المراقبة والعقاب، بهذا تفكر الوجوه المثقفة لليسار الراديكالي.
بعض الأسئلة تظل معلقة: لماذا كان من مصلحة سلطة الدولة نشر نوع من الذعر، مصحوبا بفقدان الثقة فيها. وعلاوة على ذلك تربك بشكل خطير، إعادة إنتاج الرأسمال، الذي يحب السلاسة والليونة؟ هل فعلا من مصلحة رأسمال الدول وسلطتها، اندلاع أزمة اقتصادية شاملة لتجديد قوتهما ونفوذهما؟
البيو-سياسة لا تنحصر في تدجين الأجساد، لكنها أيضا تسعى إلى حمايتها. حسب فوكو الفكرة القائلة إن الحياة ينبغي حمايتها هي مفروضة، حتمية تحملها معايير أخرى كثيرة لا ينتبه إليها، صار من الصعب تحملها والاضطلاع بها سياسيا. نستطيع بالإضافة إلى ذلك مقابلة البيو-شرعية la bio légitimité بالبيو-سياسة.
إنه لأمر دال أن ترفض البلدان الحجر الصحي مسوغة موقفها باسم الحصانة الجماعية؛ على عكس دونالد ترامب الذي فسر أن توقيف عجلة الاقتصاد ستترتب عنه وفيات أكثر من كوفيد 19 نفسه. هذا دائما باسم الحياة، حيث يحاول كل واحد الحجاج والترافع عن اختياراته بطريقته.
نشهد شكلا من الصراع الكوني للتأويلات، موضوعها حماية الحياة، آثارها الاقتصادية والجيوسياسية بالغة الأهمية: هذا حدث بيو-سياسي يهم الكوكب كله.
كشفت الأزمة عن إرث البيو-سياسة والبيو-سلطة، وهي من المفاهيم الواضحة التي صاغها أحد المنظرين لفكر ماي 68، فارتداء الكمامة، التي قد يفهم منها أنها قناع بيوسياسي يحل محل الحجاب الديني تحت ذريعة علمية، أكثر وجوبا من الفرائض الإلهية. دون أن ننسى أن المرور من «مجتمعات الانضباط «(حللها فوكو، من القرن الثامن عشر إلى بداية القرن العشرين و حيث يغلب العزل) إلى «مجتمعات المراقبة» ( تعبير يعود إلى جيل دولوز عند نهاية القرن العشرين. مجتمعات يكون فيها التواصل لحظيا والمراقبة المستمرة متجسدة في العمل، العلاجات أو الوسائل الحديثة للتعليم عن بعد أيضا) يمكنها أن تظهر تماما في المجتمعات الحالية.
بالإضافة إلى ذلك كشفت الجائحة عن اتساع الفوارق الاجتماعية قي العالم. هذه الأزمة هي إذن، حدث بيوسياسي، غير أنها تعزز رؤيتنا للتوقف الاقتصادي والفجوات الاقتصادية الكبرى بين البلدان والشعوب. في الواقع، لقد كشفت الجائحة وأظهرت اتساعا في فوارق اجتماعية ظلت دائما تحجبها نقاشات تتكرر بين المختصين بمختلف توجهاتهم.
الحرب العرقية المفتعلة أخفت خطاب الصراع الطبقي المتكرر، الذي كان موجودا دائما، لم يتغير مفهومه، لكن وجوده توارى بفعل هيمنة مفاهيم نيوليبرالية في نهاية السبعينيات، وبفعل التغييرات الحاصلة في الاهتمام، التي ألحقتها بالفرد، والمقاولة، والعولمة، والتحديث. ثمة عودة إلى المسألة الاجتماعية محركها أزمة هذه الجائحة، التي خلفت أضرارا جسيمة بمن هم أكثر ضعفا، وفقرا وهشاشة. لكن للأسف، اختلف فريق اليساريين واليساريين الراديكاليين، والمثقفين الثوريين حول المعنى السياسي للأزمة الصحية.
ليست الطبقة الاجتماعية مجرد فئة اجتماعية، لكنها مجموع ردود الأفعال وتقاليد، ومنظومات قيم، ودرجة التضامن متبادلا ومفعلا. مكنت الجائحة من اكتشاف عظيم، لم يكن واضحا من قبل، التحقق من الإثبات الذي يفسر أن الشغل الذي يعود بالفائدة على المجتمع، لا يحظى أصحابه بالتقدير، كما أنهم يتقاضون أجورا أقل، وهذا استنتاج صادم من وجهات نظر مختلفة.
يمكن أن نتساءل إذا كانت الفروقات الاجتماعية تقوم على النفعية والفائدة. رؤية ثورية تحديدا، (مع تطبيق سياسي) تقلب الاختلافات القديمة للأجور رأسا على عقب بين الصانع، وعامل النظافة، والإطار البنكي الذي يكسب أموالا وفيرة والصراف الذي يعمد إلى تخزين هذه الأموال بدلا عنه، هؤلاء الذين نسميهم «الكبار» المسيرين ومقدمي الرعاية الصحية الأساسية، بدءا من منظف المستشفى إلى الممرضة في الحراسة الليلية بانتظام. والحال، أنه خلال الجائحة وقفنا على أهمية عامل النظافة وعامل التوصيل والممرض المتنقل إلى البيوت، ورجل الإسعاف، وكل هؤلاء الذين يشتغلون في الظل، وعليهم تتوقف حياتنا اليومية العادية. لكن التقاطبات الإيديولوجية بين مختلف الانتماءات الثقافية توجد بالمثل، في كل المجموعات الحركية والإيديولوجية لليسار واليسار الراديكالي.
دعاة العولمة ومناصرو المحلية والتقدميون والشعبويون، والإيكولوجيون والمتنافسون في الإنتاج، والرجعيون والثوريون، واليساريون والفاشيون، كل هؤلاء تفرقوا، ولم يعودوا قادرين على المساهمة في إيضاح الدوافع المحتملة للانهيار، والحلول الممكنة والإمكانات المتاحة، لوضع تصور للعالم المقبل وبنائه.
النزعة التقدمية لم تمت، ولن يختفي الشعبويون؛ لأن الجائحة دبرت بطريقة كارثية، كما تم مع الأمريكي دونالد ترامب والبرازيلي جير بولسونارو، خاصة أن هذه الأزمة أحدثت تحولا، وأدت إلى تغيير في المركز، وكشفت عن المنعطف الاقتصادي والسياسي للفكر المعاصر برمته، مع طرح فكرة تقاطع ممكن بين عالم الحيوان وعالم الإنسان، وبين الحياة البرية (المهددة كثيرا) وتدجين العالم الطبيعي، وبين الحداثة والتقليد (تجميع لم يعد إجرائيا كثيرا من الناحية الفكرية)، وبين الرأسمالية الغربية والطاوية الأسيوية، وبين الديانات التوحيدية والوثنية، وآفات اجتثاث الغابات وجهاز مناعة الإنسان أو الحيوان، و تهريب الأنواع المهددة وصعود الطبقات المتوسطة، التي تستفيد من بيع هذه الأنواع. تحدث مارسيل موس عن واقعة اجتماعية عامة، تقول بشمولية حدث يكشف عن مجموع ما تضمه ثقافة أو حضارة: هكذا، أصبحت الكائنات البشرية «فيروسات» تهدد الكوكب.

الأنفلونزا، مرض ناجم
عن العولمة.

الواقعة الاجتماعية العامة ل»كوفيد-19» تتعلق بعنصر أقل مجهرية، حطم مجموع العلاقات الاقتصادية والثقافية. السببية العلية الأيكولوجية البيئية المحتملة لنشوء لهذا الفيروس، مع اجتثاث الغابات، الذي قرب الخفافيش من مراكز المدن الصينية، يطرح قضية الطلب المتنامي داخل الطبقات المتوسطة المنهجسة بصحتها وحياتها، والمواءمة بين التقليد والحداثة، وتوحيد المعايير الجينية عبر التربية الصناعية للماشية أو الاختصار في سلسلة التغذية عبر تآكل التنوع الحيوي . La biodiversité
أربكت الجائحة، ذات المصادر الحيوانية، المجتمع وكل المجتمعات. الأزمة هي (وستكون) فرصة لتغيير طرائق الحياة والتفكير. نؤكد على ميلاد أجيال من المفكرين يفكرون على نحو مختلف في العلاقات بين الطبيعة والثقافة. هي عائلات (شبكات) جديدة للفكر ظهرت منذ فترة قريبة، والتي تحاول الاعتداد بأطروحاتها وأفكارها، باستثمار هذه الأزمة. كثيرون انكبوا على المخاطر الغذائية (مثل المعالجات الجينية لبعض الزراعات الموسمية ونباتات أخرى)، وعلى الكوارث الصحية، أسبابها وآثارها، والحسم في نتائجها المدمرة. طرائق تدبير الجائحة لها أصداء ثقافية وتاريخية. إذا كانت كلمة ومفهوم «ثقافة» يبدوان متجاوزين، فأفراد نفس المجتمع، يتقاسمون ثقافة موحدة، لكنهم متنوعون ومختلفون، وأعمارهم متباعدة، ومتباينون في الآراء السياسية، أنماط حياتهم اليومية تتغير كثيرا، عندما نلاحظ الطريقة التي يتفاعل بها كل بلد مع الأزمة الوبائية، تبعا لتاريخ العلاقات بين الدولة والشعب داخل حدودها (ما يسميه فوكو البيوسياسة)، نندهش من هذه الثوابت، وكأن ثمة حتمية للتفاعلات السياسية تجاه فيروس غير متوقع (وهو نفسه في الواقع ثابت). وهناك ثوابت تاريخية وبيولوجية في هذه الأزمة.
هذه الكارثة الكوكبية العظمى، مثل هذه الأزمة العالمية، بإمكانها أن تفيد في استيعاب تحول مستمر للمجتمع جميعه، وكل المجتمعات، نحو مزيد من التضامن بين الشعوب، وإعادة التركيز على الكائن البشري، بما يملكه من إمكانات ثمينة. بطبيعة الحال، يلزم الحرص على تغيير جميع أنماط العيش الحالية، التي لم تفلح كثيرا في التنمية البشرية بنفس الوتيرة.
منذ مطلع الستينيات، ثم مع بداية السبعينيات خاصة، أفرزت أشكال التنمية مساوئ وسلبيات أكثر من المحاسن والإيجابيات، خاصة عندما نعاين ظهور أمراض معدية منقولة عن الحيوانات بفعل التغييرات الناتجة عن الفاعلية الإنسانية، أي التي تدخل فيها الإنسان.
قوبلت كل التحذيرات حول التغيرات المناخية، بقليل من الاهتمام، ولم يكن لها أثر على الواقع. الحجر الصحي مقياس غير مسبوق لتدبير أزمة صحية، يحدث تركيبا لتسريع وتسارع علامات التغير الأيكولوجي وتباطؤ النشاط الاقتصادي الملائم للتفكير الأساسي حول النموذج التنموي. لن نستطيع العودة إلى « المال من أجل المال» بعد هذه الأزمة.
الحجر الصحي يمكن أن يبدو اختبارا وبلاء صادرين عن الصين إلى بقية العالم: هذا الإجراء لمراقبة الأوبئة والجوائح، يعود إلى العزل الصحي لميناء مرسيليا عام 1720، تفاديا لانتشار الطاعون عبر البواخر.
أن يكون ثلث الإنسانية في حجر صحي خلال مارس-أبريل 2020، فذلك لأنه انطلق من مقاطعة «هوبي» الصينية في يناير-فبراير 2020، إنه حدث مفاجئ، ولا يصدق واستثنائي. لا نتحكم في الموضوعية الحقيقية لقياس الآثار السيكولوجية للأشخاص الذين خضعوا للحجر الصحي بموافقتهم أم بدونها، ما عدا انهيار أشخاص متعرضين لاضطرابات وضعف سيكولوجي.
هناك من تحدث عن «حرب» مما أدى إلى الحجر الصحي وسوغه، بالإضافة إلى استنتاجات وتوقعات وبائية، تقرأ الرقم المحتمل للوفيات، إذا لم نلتزم بالحجر الصحي. فككل حرب نكون في مجالات مجهولة، ولسنا على علم، كم سيستمر من الوقت، بعد رفع الحجر الصحي. نخاطر بالمرور إلى الحالة الموبوءة، وهو أسوأ توقع للإنسانية كلها، لأنشطتها ولمستقبلها؛ يتحدث أكبر المحذرين عن مخاطر أكثر فظاعة في المستقبل نظرا للتطور الحالي للمجتمعات.
من المرجح، أن المجتمع ضحى بحياة ملايين الأشخاص، لحساب تنمية الاقتصاد: تكفي الإشارة إلى مئات الفتيات العاملات في مصانع النسيج ببنغلادش حبيسات داخل فضاءات ضيقة، ومتسخة وتفتقد إلى التهوية، حيوات ضحي بها إجمالا، بمعدل عشر ساعات إلى ست عشرة ساعة من العمل يوميا، للحصول بضع روبيات، مقابل إنتاج مليار من الألبسة غير الصالحة، والرديئة، والملوثة للغاية، من حيث تصنيعها، تقتنيها الطبقة العاملة وذوو الدخول الهزيلة، في وهم من الثراء والإسراف.
الخطاب حول التضحية هو في صلب النقاشات، منذ بداية هذه الأزمة، كما هو الحال في كل مرة تتخذ فيها قرارات جريئة حول الموت والحياة بالنسبة للشعوب. وننسى أن الأفراد الذين يكونونها جميعهم فريدون ومتمايزون، ولهم نفس الحق في حياة كريمة، في إطار العدالة والمساواة.
صرح «كسي جينبينك» Xi Jinping أن الأطباء الصينيين «يضحون بأنفسهم» من أجل المرضى، ومنطقة «الهوبي» بالصين. التزاما بالحجر الصحي، اتخذت الصين، بالنسبة لبقية العالم، إجراءات غير مسبوقة، وهو تصريح لبث الهذيان مدى الحياة، في بلد يريد السيطرة على العالم عاجلا أم آجلا. وذهب آخرون رافضين التضحية بالحياة الإنسانية لصالح النشاط الاقتصادي، وهو ما يتعارض بقوة مع هؤلاء الذين يدعون العكس، بتفسير أن التعامل مع الشعوب ينطوي على «التضحية» بالأكثر ضعفا، وهذا ضرب من الجنون، من زاوية احترام الحياة، فكل حياة هي نعمة لا تقدر بثمن.
هنا العلوم الإنسانية، ولا سيما الأنثروبولوجيا وعلم النفس، من شأنها توفير عدد من التحليلات ونتائج التحقيقات والخلاصات والاستشرافات؛ ينبغي أن يحظى الباحثون بأهمية كبيرة داخل المجتمعات ويعترف لهم بقيمتهم الاجتماعية لدورهم التنويري في النقاش العمومي، والجدل والمناظرة، مع أخذ مسافة لطرح وتناول جيدين للقضايا. بإمكان العلوم الإنسانية أن تجنبنا اتخاذ الآراء الشائعة المسكونة بالأخطاء والخرافات، كما يحصل اليوم مع الأخبار الزائفة والشائعات، وكل مجموعة للإعلام والإخبار بدعوى الاختصاص، هي دائما، في حقيقة الأمر، تمارس الدجل وبيع الوهم.
احترام كل حياة يقاس، إلى حدود الجائحة، في البلدان «الثالثية» بحيوات مهمة وأخرى دون ذلك (مما يدل على وجود مجتمعات لا يزال فيها نصيب من الهمجية والعنف) في إفريقيا وأمريكا الجنوبية، أثناء الحروب أو الكوارث الطبيعية، غير أن المشكل غير مطروح أمام وباء للمرض التنفسي، الذي تجاوز قاعات الإنعاش


الكاتب : تقديم وترجمة: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 16/10/2020

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *