في قراءتي لمنجز فاطمة الزهراء فزازي «غيمات على أكف الريح» وجدتني أمام شاعرة توثق لوقائع هاربة من الحياة، تحاول القبض على مشاهد من تجارب حياتية المنسي منها، والماثل الصامد في وجه التحولات وآليات الحضر والمحو، تعيد في ذلك إنتاج تمثلات وقيم ومواقف وفق تخييل ومناخ آخر من الرؤية والاستشراف الفني لتكون القصيدة لغة تنسج حكايا وتجارب حياتية أخرى محصنة بثوابت ومواقف غير قابلة للمسخ.
“غيمات على أكف الريح” لم تكن سيرة ولا تجربة ذاتية تعرض فيها الشاعرة مشاهد من حياة وموقفها من وقائع وقضايا وسبر لأغوار المجهول والغريب، بل هي رغبة جامحة في جعل قصائدها رؤية وسؤالا مجردا عن الذات، ولغزا وجوديا يسائل الآخر عن ماهية الإنسان ومأساته في ظل اندحار القيم، وتغول قوى الشر والظلام.
هو سؤال له علاقة بالذات المبدعة، حيث يصبح وجود الشاعرة فكرة فلسفية مجردة بدرجة كبيرة عن التحرر الذاتي لتشيد كيانها داخل مآلات مرتبطة بالآخر وبالكون.. ليست حبيسة أنا أو هياكل مستهلكة لصور مكررة ونمطية لتجسد منطلقاتها كشاعرة قضية بحس إبداعي مرتهن بعواطف جياشة تزخر بمفردات الجمال من وعي داخلي يؤسس لأسلوب متفرد يميزها.
قصائد فاطمة الزهراء فزازي إبداع رصين ضد الساذج، وهي تفكيك لكل محتمل، ومناجاة للحياة، هي غربة ذات تبحث في المجهول عن جدوى الوجود في ظل صراع البقاء ، ومغامرة لاكتشاف المعنى النهائي الذي لا يتحقق أصلا.
بين اليقين واللايقين
تحتضر الحقيقة
تتهاوى أسوار
تكنس أعجاز بشر خاوية
من الأرصفة ..
تحرق الصكوك البالية
في محرقة جماعية
وفي الميدان
يقبل الماتادور أنيقا
يحرك قماشه الأحمر
يمينا وشمالا
يراقص الموت
بألوان الغواية
تحاول فاطمة الزهراء فزازي في جل قصائدها إخراجها من رقتها الرومانسية، ووضعها في إطار التجربة الملموسة تكسر هذا المسار عبر الخروج من الواقع إلى الرمز تقيم المسافة بين الرؤيا وإشكالية التعبير عنها وهي المسافة التي عبرها تحرر اللغة الشعرية من ضرورات الانفعال المباشر الذي يتكسر داخل القصيدة بالرمز الذي يضحى لحظة انتقالية، حيث تجسيم الانفعال في بنية سردية تخرج بها من الانفعال المباشر إلى الانفعال المعقلن.
تحرق الصكوك البالية في محرقة جماعية / يقبل الماتادور أنيقا
هكذا ترتفع النبرة المتمردة لتعيد صياغة مرجعياتها الفكرية بحمولاتها في نصوص شعرية رصينة تخلق لها فضاءات خاصة تتعدد وتبني ضوابط تعددها، فضاءات تنضح فورة وصراعا، حيث تبني القصائد علاقتها بأصوات تؤسس لصراع داخلي يبعث فيها حيوية تتلون واحتمالات تتسع لتناقضات الواقع.
عند شرفة بيت قديم
يتوسد الحصى،
يغفو على مشارف مقصلة
لعله ينسى ذكريات جساما
لعله يفيق على وقع أقدام
تهز الأرض هزا
ترسم للفرح عنوانا
وأفقا،
تشيد المشانق متحفا
تراه العين
قصائد الشاعرة تنويعات على حلم منكسر، كالحلم بلا وحدة منطقية، الرمز هو الوسيط بين الحلم والحقيقة حيث يتوحد صوت الشاعرة برجع دواخلها دون أن ينكسر الصوت والقصيدة التي تجد صداها لدى المتلقي، لترسم عالما ابتهاليا يمزج بين الحلم والحقيقة لتحدث الدهشة، دهشة تحيل إلى الكتابة والصدى.
يهتف بي هاتف
مند انبلاج الفجر
إلى غروب الروح
ينتشلني من قراره الوهن
يحررني من شباك الظن
من براثن المحن ..
هل القدر ينسى خطاه!؟
أيمكن أن يمشي مكرها
على غير هواه!؟
لعل كل ما في الأمر
أنه رقم لهمس بسعة السماء
وعيون عاشقة
تعانق النجوم
هو صوت ضائع داخل مرئيات تعود إلى الذات تعيد تشكيلها، وتتجسد في ثيمات مؤسسة عبر توجه منسجم أساسه الالتزام يتسع لقضايا تؤمن بها الشاعرة، وتستوعب مساراتها التي يحضر فيها الوازع الإنساني بقوة، قضايا يحضر فيها الإنسان والمرأة والوطن وفلسطين والحب والتسامح داخل صراع نفسي تعبر من خلاله الشاعرة عن تمرد يستجيب لأحاسيس تعتمل في دواخلها، تنتج من خلال ذلك صورا شعرية تتبلور في أخيلة خلاقة تتحول إلى رموز مدركة تشغل حقلا من الانفعالات والاستجابات والدلالات، في وضع ثقافي معين، له طبيعة محددة يتسع لها جسم القصيدة، التي تشي بأن هناك وعيا بأن الشاعرة جزء من مأساة نتيجة أوضاع مركبة تمددت جرحا من واقع متأزم، أعادت تشكيله عبر قصائد بدقة متناهية تقوم على مرجعيات تزكي دلالاتها منطلقات ومؤمنة بقيم داخل سياق فني معبر.
هي هذا المدى
الفسيح
الممتد
كالسراب ..
تشرئب أعناق الحرائر
كشقائق النعمان
كسنديات متعرشة
لا يعنيها سياج الجيران
تورق عند كل منعطف،
وساحة وشارع
تسير شامخة،
كماء زلال تسيل،
حينما عبرت
ترفع لها نصبا
تحفر خارطة للانتماء
تتفيأ تحت ظلالها الوارفة..
كل الحرائر
لقد تمكنت الشاعرة كسب نصوصها شعرية بآليات إبداعية، بترميز مرجعي وتركيب دلالي بأبعاد جمالية تجسد بحضور واع لمرجعيات ترتبط بالواقع ارتباطا وثيقا، وجعلت هذه النصوص توهمنا بشفافيتها وواقعيتها عبر نعوت وأوصاف وسمات ميزت رصيدها البلاغي، مانحة إياها حركية تجلت في انفعالات ومواقف ورؤى.
“غيمات على أكف الريح” منجز يتسم بميسم الانشطار الدلالي والبياض النصي، يتجسد ذلك في البناء الدرامي الذي يسم مجمل القصائد التي يحتويها الديوان، ومن خلال توظيف الشاعرة لتقنيات الاسترجاع عبر تراكم ميز مساراتها الحياتية ورصيدها النضالي، تجلى ذلك في تمرير مواقف وأفكار كانت وسيلة للتحول من رؤية إلى أخرى جديدة ومغايرة بتقنيات ادخلتنا إلى عوالم معاناتها الداخلية، الفردية والجماعية، في تشكيل شعري تحضر فيه كل أشكال الدينامية والتفاعل في تواز وتناسق وسم هذا المنجز بتعدد المواقف والآراء الممثلة لجيل ارتبط اسمه بسنوات الرصاص.
على صخرة المدينة
يجلس كمغترب
ضيع هويته
في زحام التفاصيل والأمكنة
يراقب السماء
وقد أسقط نجومها تباعا
وانزوت تنتحب..
يلاحق صدى إشاعة
تكسر صمت الجنائز،
تجوب الطرقات،
نيرون آت ..
شح الكلام
صم الآذان هسيس همس حزين..
استطاعت الشاعرة فاطمة الزهراء فزازي في هذا المنجز أن تطوع اللغة الشعرية، وتنزلها إلى أرض الواقع بتبني قاموس تتمرد فيه اللفظة على الجملة لتكشف بذلك عن تفرد على مستوى التعبير بصيغ بلاغية وايقاعية تنم عن تمكن من آليات الكتابة الشعرية، وقدرة على اكتشاف دلالات بتوظيف معقلن لانزياحات مبتكرة على مستوى الرمز في بساطته وتركيبه.


