عاد العجز التجاري بقوة ليكشف مجددا هشاشة المبادلات الخارجية للمغرب التي لم تفلح بعد في تحقيق التوازن بين ما تصدره البلاد وما تستورده. فالأرقام الصادرة عن مكتب الصرف برسم الفترة ما بين يناير ويوليوز 2025 تظهر أن فاتورة الواردات قفزت إلى 469,7 مليار درهم مقابل 431,8 مليار درهم خلال الفترة نفسها من السنة الماضية، أي بزيادة قدرها 37,9 مليار درهم أو 8,8 في المائة. وفي المقابل لم تتجاوز صادرات السلع 274,8 مليار درهم، بعد نمو محتشم لا يتعدى 4,2 في المائة. النتيجة كانت اتساع العجز التجاري إلى ما يقارب 195 مليار درهم، بارتفاع قدره 15,9 في المائة مقارنة مع سنة 2024.
وفي واحدة من أكثر مفارقات المبادلات الخارجية بروزا، يواصل المغرب تسجيل أرقام قياسية في تصدير الخضر والفواكه نحو أوروبا، حيث بلغت صادرات القطاع الفلاحي والغذائي ما يقارب 53,8 مليار درهم عند متم يوليوز 2025. هذه الأرقام تجعل المنتجات المغربية حاضرة بقوة على موائد الفرنسيين والإسبان والإنجليز. لكن في المقابل، تكشف جداول مكتب الصرف أن الفاتورة الغذائية التي تحملها المغرب لتأمين حاجياته الداخلية ارتفعت إلى 55,1 مليار درهم في الفترة نفسها، أي أن ما يستورده من غذاء يفوق قيمة ما يصدره. وهكذا، يصبح البلد الذي يغني موائد الأوروبيين بالخضر والفواكه عاجزا عن الاكتفاء الذاتي في موائده الوطنية، إذ يظل رهينا لواردات الحبوب التي بلغت 9,9 ملايير درهم للقمح و 4,5 ملايير للذرة، فضلا عن استيراد الأبقار والأغنام بما يفوق 3,6 مليارات درهم (+39,9%) والقهوة بـ1,66 مليار درهم (+46,9%) وزيوت الصوجا بـ4 مليارات درهم (+23,2%) .
هذا الخلل البنيوي يعكس صعوبة تقليص الفجوة بين الواردات والصادرات، إذ فقد معدل تغطية الصادرات للواردات 2,6 نقاط ليستقر عند 58,5 في المائة فقط. بمعنى أن كل مئة درهم من السلع المستوردة لا يقابلها سوى أقل من 59 درهما من السلع المصدرة، وهو ما يبرز ضعف القاعدة الإنتاجية الموجهة نحو الخارج مقابل اعتماد متزايد على الاستيراد لتلبية الحاجيات الداخلية.
عند تفكيك بنية الواردات، يتضح ثقل فاتورة المواد الغذائية والطاقية. فالمنتجات الغذائية كلفت المغرب 55,1 مليار درهم، بزيادة قدرها 2,7 في المائة. ورغم تراجع واردات القمح بنسبة 13,1 في المائة، إلا أن ارتفاع استيراد الذرة (+23,9 في المائة) والحيوانات الحية (+39,9 في المائة) وكذا القهوة (+46,9 في المائة) جعل الكفة تميل نحو المزيد من الإنفاق الغذائي، مما يكرس هشاشة الأمن الغذائي وارتهان السوق الوطني لتقلبات الأسواق الدولية. أما فاتورة الطاقة فبلغت 62,8 مليار درهم رغم انخفاضها الطفيف بنسبة 6,1 في المائة، نتيجة تراجع أسعار الغازوال والفيول في السوق الدولية. غير أن استمرار اعتماد المغرب على الخارج لتأمين جزء كبير من حاجياته الطاقية يظل أحد أبرز نقاط الضعف في الميزان التجاري.
من جانب آخر، أظهرت المعطيات تضخم الواردات من المنتجات النهائية الموجهة للاستهلاك والتي ارتفعت إلى 115,5 مليار درهم (+13,7 في المائة)، مدفوعة بزيادة قوية في واردات السيارات السياحية (+39,9 في المائة) والأدوية (+17,6 في المائة). وهو ما يعكس نزعة استهلاكية تتطلب تمويلا خارجيا إضافيا وتزيد من الضغط على احتياطي العملات.
على صعيد الصادرات، سجلت الفلاحة والصناعات الغذائية أداء متواضعا بنمو 3,4 في المائة فقط، فيما سجل قطاع النسيج والجلد تراجعا بنسبة 3,3 في المائة والقطاع الإلكتروني انخفاضا بـ6,5 في المائة، وهو ما يضعف قدرة المغرب على الاستفادة من الفرص التي تتيحها الأسواق الدولية. كما أن قطاع السيارات، الذي يمثل أحد أعمدة الصادرات الصناعية، سجل بدوره تراجعا طفيفا بناقص 1,8 في المائة نتيجة انخفاض صادرات السيارات الكاملة. بالمقابل، برز قطاع الفوسفاط ومشتقاته كقاطرة شبه وحيدة حيث ارتفعت مداخيله بنسبة 20,9 في المائة لتصل إلى 55,2 مليار درهم، بفضل زيادة صادرات الأسمدة الطبيعية والكيميائية. غير أن اعتماد الصادرات الوطنية بشكل مفرط على مادة أولية واحدة يضعف مرونة الاقتصاد ويزيد من تعرضه لصدمات أسعار المواد الخام في الأسواق العالمية.
أما على مستوى المبادلات في قطاع الخدمات، فقد تمكن المغرب من تحقيق فائض بلغ 82,1 مليار درهم بزيادة 10,8 في المائة، مدعوما خصوصا بمداخيل السياحة التي ارتفعت إلى 67,1 مليار درهم. ومع ذلك فإن هذا الفائض يظل غير كافٍ لتعويض اتساع العجز التجاري في السلع، ما دام حجم الواردات يفوق بكثير قدرات القطاعات المصدرة.
في المحصلة، تكشف مؤشرات يوليوز 2025 أن الخلل في المبادلات الخارجية للمغرب ليس ظرفيا بل يعكس هشاشة هيكلية. فالعجز التجاري يظل رهينا بفاتورة غذائية وطاقة مرتفعة، وصادرات متركزة في قطاعات محدودة، مع فقدان قطاعات تقليدية مثل النسيج والإلكترونيك لزخمها. وإزاء هذه الوضعية، يظل رهان المغرب معلقا على تسريع الانتقال نحو قاعدة إنتاجية قادرة على تغطية الحاجيات الداخلية وتطوير صادرات ذات قيمة مضافة عالية، بما يسمح بإعادة التوازن لمعاملات البلاد الخارجية والتخفيف من وطأة التبعية للأسواق الدولية.