فتاة الحافلة

من خلف زجاج المقهى رآها تعبر الأرصفة بدون وجهةٍ محدّدة بعدما نزلت من الحافلة بشكلٍ خاطئ. حكت له تفاصيل قصّتها، وعن رجل الزقاق ذي الملامح البشعة. رقّ قلبـه فأدار محرّك السيارة لينطلق بها صوب المحطة، توادعا وهو يمدّ لها ثمـــــن التاكسي، بدورها تركت لــه رقم هاتفها ليطمئـــــــــن على وصولها. تحت الملاءة سمع رنة هاتفه، ليتكرّر الرنين مع توالي الليالي، لتبدأ خيوط قصّة حبّ غامضة نسجتها الصدفة؛الحافلة والمقهى.
بعد أسبوعين وتحت جسر وادي بهت تحديدًا، أسندت رأسها على كتفه وركّزت بصرها على الماء المنساب، أخذ مبادرة الكلام فقال:
-أخافُ أن تمضي الأيام بالشكل الذي لا أريد، ويأتي يوم أتألم فيه.
أزاحت خصلات شعرها عن وجهها ووضعتها خلف أذنها اليمنى، فقالت:
هو أمر في غاية الأهمية ويستحق التأمل. ثمّ أردفت :
هذا إذا لم تختف في حضن امرأة.
ابتهج لكلامها، فشعر بارتياح وقد تخصّب وجهه فرحًا، تأبط ذراعها، فانطلقا يمشيان على حواشي الضفة بنشوةٍ لا حد لها، والطبيعة توّزع طراوة ممزوجة برائحة التراب والأعشاب البرية. وما إن وصلا المدينة حتى استقرت في قلبه، وأصبح كل شيء  يُذكّره بوادي بهت. بدأت الأيام تتحرك بالشكل الذي تمناه، فظن أنّ إلهام (يا لروعة الاسم والمسمّى !) لن تسقيه إلا الأفراح وفي أحايينَ أخرى ظن أنها نكثت وعدها وأدارت له ظهرها كأيّ جلفٍ وكجميع النساء اللواتي تعرّف عليهن، وربّما تزوجت من رجلٍ التقت به هو الآخر بالصدفة.
حزن كثيرًا وهو يجاري وسواسه، فكان كلّما خرج انحدر إلى الوادي وأخذ يرمي الأحجار الصغيرة في الماء لترسم له دوائر كما كانت تفعل،لعله يجد سببا أجبرها على الصمت في الأيام الأخيرة بشكل مقلق كلما تحدّثا في الهاتف قبل أن يتوقف كلّ شيء وتنقطع عنه كلّ السبل، فيما ظلت صورتها تتماوج في رأسه لتسكن الحسرة أحشاءه. طوته الأحزان حدّ الكارثة ولم تتهيأ له غير أحاسيس التيه والضياع. وأخيرًا قرّر أن يترك حذاءه يبحث عنها إلى أن وجد صديقة لها فتحت أمامه مسارب الأمل الغامض عندما قالت :
زوجها الوغد تركها في أسوأ حال، وصارت مثل قطعة ثوب بالية. يا إلهي خبا النور في محاجرها، وجفّ الماء في وجهها بعدما عجزت عن إيقاف لسانه السليط. المسكينة كان مصيرها سيئًا.
قال لها : الذي حصل الآن قد حصل، أردتها زوجةً لنعيش معا تحت سماء الله الجميلة، هكذا تمنيتُ وجلست أحلم ليالٍ طويلة، أما الآن فأتمنى أن تكون قد تحمّلت الخسارة بقليل من الألم وبكثيرٍ من التّفهم. ظل الصمت يتراقص بينها، قبل أن يكتب اسمها على شيكٍ بنكي وقال:هذا لها، بلغي لها سلامي وأجمل تحية.
ثمّ عاد ليجلس في نفس المقهى منتظرًا مرور حافلة أخرى،ربمّا تنزل منها امرأة لتنسج خيوط قصّة أخرى.


الكاتب : نور الدين خروب

  

بتاريخ : 13/12/2024