فتحي المسكيني:الوباء قد جرّد الدّولة من سيادتها -10-

سعينا في حوارنا مع الفيلسوف التّونسيّ فتحي المسكيني إلى محاولة قراءة نتائج وارتدادات وباء كورونا من وجهة نظر فلسفيّة، وقد تمخّض عن الحوار خلاصات على درجة عالية من الأهميّة، اتّضحت في بنية النّص الفلسفيّ الحواريّ والسّجالات الّتي طرحها، والّتي حتماً سوف تُثير إشكاليات كثيرة. تشابك فيلسوفنا مع ما يعتبره كثيرون من اليقينيات، لا سيّما المرتبط منها بالعلاقة بين الدّينيّ والواقعيّ المؤلم؛ فما “صنعه الإله التّوحيدي” حول صورة الإنسان كسرته وحشيّة الوباء.

 

من يقرأ العظة (التّي ألقاها البابا يوم 27 مارس/آذار 2020)، “لحظة خارقة للصّلاة في زمن الوباء”، تفاجئه الكلمة الأولى منها: ” عندما جاء المساء” والجملة الإنجيليّة الكاملة (مرقس 4، 35) هي:” في ذلك اليوم، عندما جاء المساء قال لهم يسوع: ‘لنعبر إلى الضّفة الأخرى”. ما رمز هذه الإشارة؟ يصف البابا الضّفة الّتي نقف عليها بعد انتشار الوباء بأنّها ساحات سقط عليها “اللّيل”، التّفّ بها “الصّمت”، وخيّم عليها “فراغ” مرعب أصاب كلّ ما يمرّ عليه “بشلل” تامّ. كلّها ملامح للغياب، غياب البشر. ولذلك هو يقرأ هذا المشهد تحت العبارة الانجيليّة:” وكان هو في المؤخّر على وسادة نائماً. فأيقظوه وقالوا له: “يا معلّم، أما يهمّك أنّنا نهلك؟” (مرقس 4: 28)، قائلاً: “من السّهل أن نجد أنفسنا في هذه القصّة”.
قصّة مغزاها هو: أنّ خلاص البشر موجود وبالتّحديد في ما يشتركون فيه من وضع بشري. أنّ النّاس جميعا، أنّ جميع الغائبين، هم “على نفس السّفينة” (وهي عبارة ردّدها سلافوي جيجيك قبل ذلك بأشهر قليلة)، أي أنّنا إن هلكنا فإنّنا “نهلك” معاً. إنّ خطر الهلاك هو ما يجمع بين النّاس ويجعلهم تحت وطأة قدر واحد. بالطّبع، حيثما تكون الكارثة يمكن أن يجد الدّين تربة خصبة لزرع “الرّجاء”. ولم يفعل البابا غير ذلك. لا يمكن للعظة أن تفعل للبشر سوى وعدهم بنوع آخر من “الاهتمام” بهم: اهتمام أكبر من قدرهم. ولكن هناك شرط مؤلم هنا. أن يكونوا قد آمنوا بأنّهم ليسوا وحدهم. قال البابا:” لماذا أنتم خائفون، ألا يزال لديكم شيء من الإيمان؟”
لا يكون المؤمن «وحيداً» إلاّ عندما يتكلّم في صيغة المفرد. لذلك فإنّ البابا نقل الخطاب سريعاً إلى صيغة “نحن”. وما إن يظهر ضمير “نحن” حتّى يكفّ المشهد عن “الغياب” (عن الصّمت والفراغ) ويصبح المؤمنون الغائبون جزءًا من “الحضرة” الّتي ينصبها المتكلّم. إنّ عظة البابا دون جمهور (مثل مقابلة كرة قدم دون جمهور) لا تعني فقط أنّ الفضاء الافتراضي قادر على تعويض الفضاء الواقعيّ، بل أيضا أنّ المؤمنين في زمن الوباء يحتاجون إلى خلاص من نوع غير “كنسي”: لم يعد هناك “جماعة” واقعيّة؛ وعليهم أن يعوّلوا هذه المرّة على جماعة بلا أجسام، أو على لقاء بلا أعضاء، لقاء لا يمكن للفيروس أن يتسرّب إليه من أجل سرقته، لأنّه لا يعمل إلاّ داخل تاريخ الجسم، أمّا تاريخ الرّوح فلا يعنيه.
بيد أنّ شخصيّة البابا هي من الخطورة السّياسيّة بحيث أنّ عظته الخالية من الجمهور تجاه مؤمنين بلا أجسام أو بلا أعضاء يمكن أن تحيلنا فلسفيّاً على إشكال أكثر طرافة. إذ يمكن أن نقرأ تلك العظة في ضوء كتاب مثير نشره أرنست كانتوروفتش(Ernst Kantorowicz)- المؤرّخ الأمريكي من أصل ألماني، المختصّ في تاريخ الأفكار السّياسيّة والدّينيّة في العصور الوسطى،- وذلك سنة 1957 تحت عنوان: “جسمَا الملك. دراسة في اللاّهوت السّياسيّ الوسيط”(The King’s Two Bodies. A Study in Medieval Political Theology). إنّ للملك جسمين اثنين: جسم “سرّي أو مغيّب / mystic” (هو صورة روحيّة عن المسيح) وجسم “طبيعي” أو ظاهر (زماني ومائت). كانت الكنسيّة تعبّر عن الجسم الأوّل وكانت الدّولة هي التّعبير عن الجسم الثّاني (الّذي أطلق عليه هوبس اسم «الإله الفاني»).
لكنّ واقعة الوباء يمكن أن يغيّر مفردات الإشكال بطريقة مفزعة، كي يكون الأمر متعلّقا هذه المرّة بالعلاقة بين «البابا» و”الجمهور المؤمن” الّذي يخاطبه. إنّ سخرية الوباء تكمن في كونه قد غيّر العلاقة مع المكان المقدّس: إنّ الجمهور الغائب قد صار يؤدّي دور الجسم “السّري” الّذي لا يظهر في المشهد، ولم يترك للبابا سوى دور الجسم العلنيّ. لقد فقدت الكنيسة (وكلّ دور العبادة الدّينيّة في العالم معها) دورها المقدّس (دور الجسم السّرّي) ووجدت نفسها مجبرة على تأديّة دور لا يليق بها: دور الجسم العلنيّ أو العموميّ، ولكن بعد أن صار فارغاً من محتواه المعتاد. فإنّ مشهد البابا وحيداً، يقيم قدّاساً بلا مؤمنين في كاتدرائيّة القديس بطرس، مثل مشهد الحرم المكّي فارغاً من المصلّين والمعتمرين، هو حدث ميتافيزيقي غير مسبوق: إنّه يقلب العلاقة بين الزّمنيّ والرّوحيّ بشكل مثير. إنّ فراغ المعبد يجعل الغائب روحياً وذلك مهما كان بشرياً، في حين أنّ الحضور داخله هو يعود إلى كثافته الفارغة من البشر، ويرتدّ إلى جسمه الماديّ الّذي لطاما كان مختفياً وراء هالة المقدّس. إنّ الوباء أعاد للأجسام البشريّة قداستها: أنّها كيان نادر وأنّها أشكال من الحياة لا يمكن أن تُعوّض حتّى في حضرة المقدّس. ولا أحد سوف يتساءل عندئذ ولو شعرا: «لماذا تركت البابا وحيدا؟»، «لماذا تركت الإله وحيدا؟».


الكاتب : حاورته: ريتا فرج

  

بتاريخ : 24/04/2021