فتحي المسكيني:الوباء لا يفرّق بين «الأجساد» ويسخر من كلّ التّمييزات الثّقافيّة

سعينا في حوارنا مع الفيلسوف التّونسيّ فتحي المسكيني إلى محاولة قراءة نتائج وارتدادات وباء كورونا من وجهة نظر فلسفيّة، وقد تمخّض عن الحوار خلاصات على درجة عالية من الأهميّة، اتّضحت في بنية النّص الفلسفيّ الحواريّ والسّجالات الّتي طرحها، والّتي حتماً سوف تُثير إشكاليات كثيرة. تشابك فيلسوفنا مع ما يعتبره كثيرون من اليقينيات، لا سيّما المرتبط منها بالعلاقة بين الدّينيّ والواقعيّ المؤلم؛ فما “صنعه الإله التّوحيدي” حول صورة الإنسان كسرته وحشيّة الوباء.

إنّ إجبار النّاس على “البقاء في المنزل” قد طرح مشكلين مختلفين: من جهة، طبيعة العلاقة بقوانين الدّولة؛ ولكن من جهة أخرى، علاقة النّاس بأنفسهم وبالآخرين الّذين هم في صلة حيويّة معهم: كيف يجدر بهم أن يسوسوا أنفسهم، وكيف يكون عليهم أن يمارسوا علاقتهم بالآخرين، في فضاء لا تصله الدّولة؟
يبدو أنّ عدداً كبيراً من تدخّلات الفلاسفة الغربيين حول أزمة فيروس كورونا قد انحصر في خانة المشكلة الأولى: هي تقريباً مواقف سلبيّة، محصورة في المهمّة النّسكيّة أو الطّهوريّة “للنّقد” في عصر أزمة مفهوم الذّاتيّة: هي مواقف تتعلّق بنقد “فيروس الإيديولوجيا” (سلافوي جيجيك) أو نقد السّلطة “البيو-سياسيّة” (جورجيو أغمبن) أو نقد السّياسية “الصّحيّة” (جوديت بتلر) أو نقد الشّبح الأمنيّ للدّولة التّسلطيّة (بيتر سلوتردايك) أو نقد “الرّأسماليّة المتوحّشة” أو النّيوليبراليّة (نعومي تشومسكي) أو نقد طبيعة علاقة الدّول الغربيّة بالعلم (آلان باديو) أو نقد صلاحيّة “القرارات” السّياسيّة القائمة على نصائح الخبراء (يورغن هابرماس)…
ونذكّر مثلاً بارزاً على ذلك، ما كتبه جورجيو أغمبن الّذي اعتبر دعوة الدّولة إلى الحجر الصّحيّ تأتي في سياق «نزعة متعاظمة لاستعمال الحالة الاستثنائيّة أو حالة الطّوارئ بوصفها نوعا من البراديغم العاديّ للحكم». وهو يقرأ «مناخ الهلع» بوصفه يصبّ في مصلحة دولة تريد أن تستعيد نفوذها الأمني. وهو يفترض أنّ «اختراع الوباء» جاء ليأخذ مكان الحملة على “الإرهاب».
وحتّى هابرماس الّذي يحرص دوماً على تقديم أجوبة غير مفرطة في نقد السّلطة، فهو لا يشذّ عن القاعدة هنا ويحصر الجدل حول أزمة كورونا في مناقشة ماهيّة السّياسة في المستقبل. قال: «علينا منذ الآن أن نفعل في نطاق معرفة صريحة بعدم معرفتنا. إنّ كلّ المواطنين، اليوم، قد علموا كيف يجب على الحكومات أن تأخذ القرارات في ظلّ وعي تامّ بحدود معرفة خبراء الفيروسات الّذين ينصحونها.»
وهو لا يرجو سوى أن يعي الفضاء العمومي بأنّ الفعل السّياسي هو منذ الآن غارق في “اللاّيقين” على نحو غير مسبوق.
وهنا نتساءل: كيف نفهم هذه النّزعة إلى قراءة الحجر الصّحيّ وكأنّه من مسؤوليّة الدّولة الأمنيّة أو علامة على حدودها؟ لماذا انقلبت مهمّة الفلسفة إلى نقد طهوري للسّلطة بجميع أشكالها؟ أليس ذلك اعترافًا صامتًا بأنّ نواة “الحقيقة” سوف تبقى دوما من صنع أصحاب القرار؟
قد يكون الوباء لا يفرّق بين «الأجساد» ويسخر من كلّ التّمييزات الثّقافيّة الّتي أقامها البشر فيما بينهم، نعني فيما بين تلك الأجساد (دين، هويّة، لغة، جندر، سلطة،…) إلاّ أنّه علينا التّنبيه إلى أنّ الثّقافات لا تعيش أزمة الوباء بالطّريقة نفسها أو بالمفردات نفسها. إنّ “الخطر” فكرة؛ ولكلّ ثقافة سياق نفسي أو روحي خاصّ بها يملي عليها نمطاً معيّناً من التّأوّل أو الفهم لما تتعرّض له. إنّ هشاشة البشر مشكل ثقافي أيضًا. مثلاً: إنّ المجتمعات الغربيّة هي عوالم حياة محكومة بقيم ليبراليّة وفردانيّة قامت على إنتاج الأجساد وفق سياسة للحياة تجد تبريرها وشرعنتها الأساسيّة في مقولة “الحريّة الفرديّة” (حتّى بعد تفكيك مقولة “الذّات” طيلة قرن ونصف من كيركغارد إلى فوكو). ذلك أنّ الأمر يتعلّق بضرب من “هويّة” الحداثة منذ قرون عديدة. هذا الطّابع الفرداني الأساسي هو السّياق الاجتماعي المخصوص الّذي يتمّ فيه الآن اللّقاء المرعب مع فيروس كورونا. ومن ثمّ يمكن قراءة تدخّلات الفلاسفة الّذين يحصرون الجدل حول الحجر الصّحيّ في مناقشة قوانين الدّولة البيو-سياسيّة بوصفها مجرّد “تبعات” أو نتائج إشكاليّة من نوع أعمق تخصّ طبيعة التّصوّر اللّيبراليّ لفكرة “الخطر” بوصفه مختزلا في تهديد مملكة “الفرد” المطلق بما هو كذلك. هي ردود فعل مواطنين فردانيين خائفين من فقدان “ممتلكات” خاصّة محميّة أو كانت محميّة دوماً بموجب “عقد أمني” شرعن طريقة الفصل بين “الحياة الخاصّة” و”الفضاء العمومي. ويبدو أنّه لا تشمل الأمر الإجباري بالبقاء في المنزل.
ولذلك يبدو أنّ المشكلة الثّانية، المتعلّقة بسياسة النّاس لأنفسهم، ولعلاقتهم بالآخرين، – النّاس الّذين قبلوا البقاء في المنزل- هي بالنّسبة إلى الفلسفة راهناً أكثر طرافة وخطورة من مجرّد نقد السّلطة في حين أنّ الأمر لا يهمّ ماهيّة السّلطة (والتّي يمكن مناقشتها في سياق آخر) بل ماهيّة المنزلة “المنزليّة” للبشر: نعني ماهيّة “السّكن” داخل مجال الكينونة الخاصّة، هناك حيث تفقد الدّولة سلطتها علينا، ويصبح ممكنا، ربّما منذ وقت طويل، إعادة الإنسانيّة إلى البيت، أي إلى مساحة غير مسيّسة حيث يمكنها، ربّما، في حدود مزعجة، إعادة اختراع علاقتها بنفسها. ومن ثمّ إعادة التّفكير في منزلة “الآخر” ومن يكون هذا الآخر بالنّسبة إليها.
فجأة اكتسب “تدبير المنزل” أصالة غير معتادة كانت قد سُحبت منه تحت وطـأة التّسييس النّسقي للحياة الحديثة في ظلّ ما سمّاه أدورنو “العالم/الإدارة“.
يقول دريدا، في كتابه “هبة الوقت”( Donner le temps):”إنّ تدبير المنزل يأخذ دائماً طريق أوليس. فهذا الأخير يقفل راجعاً إلى ذاته أو إلى أهله، فهو لا يبتعد إلاّ من أجل أن يعود إلى وطنه، من أجل أن يرجع إلى البيت الّذي انطلاقاً منه أُعطيت إشارة الرّحيل…”. وقد نبّهنا هيدغر إلى أنّ القول بأنّ “التّفكير يعمل على بناء منزل الكينونة” هو ليس مجرّد “استعارة”، إنّه جزء مثير من ماهيّة البشر. وبذلك فإنّ الحجر الصّحي يعيد طرح السّؤال الفلسفيّ عن معنى “السّكن” في العالم بطريقة غير مسبوقة.


الكاتب : حاورته: ريتا فرج

  

بتاريخ : 16/04/2021