سعينا في حوارنا مع الفيلسوف التّونسيّ فتحي المسكيني إلى محاولة قراءة نتائج وارتدادات وباء كورونا من وجهة نظر فلسفيّة، وقد تمخّض عن الحوار خلاصات على درجة عالية من الأهميّة، اتّضحت في بنية النّص الفلسفيّ الحواريّ والسّجالات الّتي طرحها، والّتي حتماً سوف تُثير إشكاليات كثيرة. تشابك فيلسوفنا مع ما يعتبره كثيرون من اليقينيات، لا سيّما المرتبط منها بالعلاقة بين الدّينيّ والواقعيّ المؤلم؛ فما “صنعه الإله التّوحيدي” حول صورة الإنسان كسرته وحشيّة الوباء.
لكن من قال إنّ الفيروس لا يذهب إلى الرّيف؟ طالما أنّ الأجسام البشريّة –مضيفه المفضّل- تفعل ذلك؟
تنتظر البشريّة اليوم نتائج المختبرات والأبحاث الطّبيّة الّتي تصارع لإيجاد لقاح يقضي على وباء كورونا. في المقابل يرى كثيرون أنّ ثمّة خللا مّا في الجسم الطّبيّ العالميّ سواء من ناحية التّعامل مع الفيروس أم التّأخر في إيجاد اللّقاح. ما الّذي يعنيه ذلك بالنّسبة إليك؟ وهل ثمّة ارتكاسة في “العقل الطّبيّ”؟
_ إنّ نعوم شومسكي يخفّف من هول أزمة كورونا منبّهًا إلى أنّها أزمة مؤقّتة لأنّ هناك ما هو أكثر رعباً، مثل الحرب النّوويّة أو الاحتباس الحراريّ. لكنّ بيت الدّاء بالنّسبة إليه ليس شيئاً آخر سوى “الرّأسماليّة المتوحّشة” الّتي لا تهتمّ إلاّ بمنطق الرّبح. فقد كان العالم على علم، حسب رأيه، منذ مطلع القرن بأنّ ظهور الأوبئة إمكانيّة ورادة جدّاً بعد ظهور وباء “المتلازمة التّنفّسيّة الحادّة الوخيمة” (SRAS) سنة 2003، وكان يمكن البدء في العمل على تصنيع التّلاقيح المطلوبة، فقد كانت المعلومة متاحة، لكنّ الصّيدلانيات العملاقة لم تكن مهتمّة لأنّ صنع مراهم جديدة للجلد هو أكثر مردوديّة ربحيّة من العثور على لقاح وبائي. كانت سبل النّجاة بشكل استباقي مفتوحة لكنّ “الطّاعون النّيوليبرالي حال دون ذلك“.
وهذا النّقد هو في الحقيقة موقف مزدوج: ضدّ الرّأسماليّة من جهة، وضدّ المختبرات الطّبيّة العالميّة من جهة أخرى. لكنّه يبدو اعتراضًا أخلاقيًا على مشكل أكثر خطورة من ذلك. ذلك أنّ فيروس كورونا ليس حدثًا جديداً فقد ظهر وباء مماثل سنة 2003 ونُعت بأنّه “أوّل مرض مجهول في القرن الواحد والعشرين”، ومن ثمّ فإنّ النّقد الجدّي الوحيد ليس فقط “نقد السّلطات” الّتي لم تستعدّ بجدّيّة، بل خاصّة، كما يشير إلى ذلك باديو، التّنديد بضعف علاقة الدّولة بالعلم.
هذا التّشخيص طريف لأنّه ينقل المشكل من أفق التّقليد الّذي سنّه فوكو في أبحاثه عن كيفيّة تحوّل “المعرفة” الطّبيّة إلى خطاب “سلطة” قانونيّة على أجساد النّاس الّذين يعيشون بوصفهم “أفراداً” بلا عمق في مجتمع انضباطي،- إلى أفق تقليد بحثي من نوع آخر حيث تتمّ مساءلة العلاقة بين الدّولة والعلم بوصفها علاقة خطيرة على نحو غير مسبوق لأنّها تعوّض العلاقة ما قبل الحديثة بين الدّولة والدّين. لقد ظلّ فوكو يؤرّخ للجانب “السّلبيّ” من الحداثة الطّبيّة في شكل اعتراض “بيو-سياسي” على سلطتها العلميّة. وهي في تقديره عبارة عن مجموعة من الأحداث “الحديثة” الّتي وقعت في القرن الثّامن عشر هو يجمّعها كما يلي: 1- «ظهور سلطة طبيّة” تتخطّى السّلطة المعرفيّة إلى تكوين “سلطة اجتماعيّة قادرة على اتّخاذ قرارات تهمّ مدينة أو حيًّا أو مؤسّسة أو نظامًا” وهو ما يسمّيه الألمان “الطّب التّابع للدّولة» (Staatsmedizin)؛
2- «ظهور مجال لتدخّل الطّب متميّز عن المرض: مثل الهواء والماء والبناءات والأراضي ومجاري المدينة… إلخ. فكلّ ذلك قد أصبح أثناء القرن الثّامن عشر، موضوع الطّب»؛
3- «إدخال جهاز تطبيب جماعيّة، نعني المستشفى. قبل القرن الثّامن عشر، لم يكن المستشفى مؤسسة تطبيب، بل مؤسّسة مساعدة لفقراء في انتظار الموت»؛
4- “إدخال آليات إدارة طبيّة: سجلّ بيانات، وضع إحصائيات،…”.
إنّ استنتاج فوكو هنا هو أنّ الطّب قد أصبح له سلطة تنسحب على ميادين واسعة أخرى تتجاوز مشكلة “المرض” الفرديّ. لقد تمّ ترسيخ أنموذج “الباثولوجيا” بوصفه “شكلاً عامّاً لتنظيم المجتمع”. وفي استثمار مقلوب للوصف الّذي أطلقه فيشته على بروسيا سنة 1810 بأنّها “دولة تجاريّة مغلقة” صرّح فوكو بأنّنا في المجتمع الحديث “نعيش في دول طبيّة مفتوحة (Etats médicaux ouverts) حيث يكون التّطبيب بلا حدود”.
يساعدنا هذا التّشخيص على إضاءة جانب آخر من الإشكال: إنّ الوباء لا يهمّ العقل الطّبي الحديث بما هو كذلك لكنّه يضعه موضع سؤال في آن. ذلك أنّ الوباء ليس مرضاً “حديثاً” يمكن للدّولة الطّبيّة أن تستثمر فيه آليّة السّلطة المعرفيّة الّتي يترجمها المستشفى إلى سلطة اجتماعيّة أو قانونيّة. إنّ الوباء يدمّر فكرة المرض نفسها ومن ثمّ فإنّ ظاهرة “التّطبيب” – أي سحب الأنموذج “المرضي” على عدد واسع من ميادين الحياة الحديثة- لا تفيدنا في فهم علاقة الدّولة بالأوبئة إلاّ عرضاً أو من خارج منطقها. فالدّولة تستثمر في ظواهر “الحياة العاديّة” حيث يكون “السّكّان” خاضعين لقوانين يمكن تطويعها حتّى تتحوّل من أداة سلطة مجرّدة إلى أداة إدماج اجتماعي، وهو طابع “التّذويت” (subjectivation) المزدوج لدى فوكو: “الإخضاع” (assujettissement) الّذي يخلق “ذواتا” (sujets). وهذا صحيح تماماً بالنّسبة إلى مفهوم المرض. لكنّ المرض ليس وباء. ولا يمكن تصوّر دولة تعتبر الوباء أداة مناسبة للإدماج الاجتماعيّ من خلال مؤسّسة المستشفى بوصفها جهازاً من ابتكار “دولة طبيّة مفتوحة” على المجتمع.