فخر وشموخ: عبد القادر مسكار رسول المجد المغربي

 

في مساء باريسي تنبعث فيه رائحة الدهشة من الضوء، وتتشكل الممرات كأنها شرايين مفتوحة على الحلم، وقف عبد القادر مسكار في قلب بلاس لاكونكورد، يواجه العالم بريشة تشبه البوصلة. باريس تلك الليلة كانت تنصت، والألوان كانت تتنفس. لحظة لا تشبه إلا نفسها، حين منح صالون الخريف وجمعية أصدقائه جائزة الصباغة لعام 2025 لهذا الفنان المغربي الذي جعل من اللون وطنا، ومن اللوحة كونا مصغرا يتحدث بلغته الخاصة.
في حضرة عمله العروس، اللوحة الدائرية التي تحمل اسم «Humanité»، شعر الجميع بأنهم أمام كائن حي، لا أمام لوحة. كان شكلها المستدير يذكّر بكوكب أو بعين كونية تنظر من بعيد إلى فوضى الإنسان. الألوان تتصارع وتتآلف في آن، الأزرق يحتضن الأخضر، والرمادي يتماهى مع البرتقالي، والبياض يتوهج مثل نداء من الغيب. وفي مركز هذه الدوامة المضيئة، تنبثق الكلمة: Humanité كصرخة ولادة، أو كحلم يتشبث بالبقاء وسط عالم يتآكل من الداخل.
ليست هذه اللوحة زينة جمالية، بل سؤال مطلق عن معنى الإنسان، عن هشاشته وقدرته على النهوض من الرماد. كل تفصيل فيها يبدو وكأنه أثر من رحلة طويلة عبر الذاكرة والضوء. الأشكال تتقاطع كما تتقاطع الحكايات في المدن القديمة، الوجوه تطل من الظلال، الطيور البيضاء تحاول الإفلات من الزحام، والأقنعة تتبدل كما تتبدل المواسم. كل شيء يتحرك داخل دائرة واحدة، وكأنها مجرة صغيرة تبحث عن توازنها في هذا الكون المائل.
عبد القادر مسكار لا يرسم الألوان، بل ينحتها في الزمن. الأزرق عنده ليس لونا بل حالة وجودية، المدى الذي تتنفس فيه الروح حين تضيق الأرض. من الأزرق يولد كل شيء: الرمادي الذي يشبه المدن المتعبة، البرتقالي الذي يشبه البدايات، الأبيض الذي يشبه الصفح، والظلمة التي تشبه الصمت قبل الكلام. وفي قلب هذا الاتساع، يقف الإنسان، صغيرا كالنقطة، عظيما كفكرته عن النور.
هذه اللوحة، كما وصفها النقاد في باريس، ليست عملا جماليا بقدر ما هي تجربة روحية. إنها تسائل أكثر مما تجيب. ما الإنسان؟ ما معنى الإنسانية حين تتحول إلى كلمة معلقة في العتمة؟ هل هي وعد أم عبء؟ هل يمكن للون أن يحمل خلاصا؟ أم أن الفن ذاته صار المأوى الأخير لما تبقى من إنسان فينا؟ أسئلة تهمس بها اللوحة دون أن تنطق، كأنها تدرك أن الإجابات ليست في القول، بل في النظرة التي لا تنتهي.
ومن هنا تتوهج فكرة الإنسانية كدوامة نور. ليست الإنسانية عند مسكار شعارا يرفع، ولا حلما رومانسيا، بل حركة دائمة بين الضوء والظل، بين الجسد والفكرة، بين الإنسان ككائن فاني والإنسان كرمز خالد. هي دوامة لا تعرف السكون، تبتلع كل تناقضاتنا وتعيد تشكيلها ضوءا. كل لون في هذه اللوحة يشبه كلمة من لغة غير مكتوبة، لغة تقترب من الصلاة أكثر مما تقترب من البيان. وهكذا تتحول اللوحة إلى مرآة كونية ترى فيها ذاتك دون أن تراها، تذكير بأن الإنسانية ليست غاية بل سيرورة أبدية في البحث عن النور.
حين أعلن صالون الخريف وجمعيته هذا التتويج، بدا وكأن المغرب بأكمله يدخل قلب باريس من أوسع أبواب الإبداع. لحظة فخر ثقافي وجمالي، لكنها حملت أيضا شيئا من الحزن النبيل حين صرح الفنان بأنه دعا مسؤولين من مؤسسات ثقافية مغربية ولم يحضر أحد. قالها بصوت هادئ لكنه عميق المعنى: الثقافة عندنا تصعد وحدها، تتنفس وحدها، وتكرم بعيدا عن أهلها. كم من ضوء مغربي يسطع في الخارج بينما في الداخل لا أحد يرى النور.
ومع ذلك، يظل الفن أصدق من كل صمت. فمسكار لا ينتظر تصفيق المؤسسات، لأن الفن عنده ليس حدثا عابرا بل قدر. ريشته تمخر العتمة كما يمخر القارب ماء الليل، بحثا عن ضوء أبعد. يقول في تصريحه: «تمثل هذه الجائزة صلة حية بين جذوري المغربية ومساري الأوروبي، بين الذاكرة والمادة والنور.» هي كلمات تختصر فلسفته كلها، الفن كجسر، كجغرافيا ثالثة لا تنتمي إلا للحلم.
من فاس إلى باريس، من الرمل إلى الضوء، من الحرف العربي إلى اللون الكوني، يمتد خيط سري يرسم به مسكار خرائط جديدة للجمال. لوحة «الإنسانية» لا تقول شيئا محددا، لكنها تجعلنا نرى كل شيء. إنها صرخة ضد القسوة، ضد اللامبالاة، ضد التيه البشري، وهي في الوقت نفسه صلاة بصرية من أجل ما تبقى فينا من رحمة.
في النهاية، الجائزة مجرد لحظة، لكن الأثر سيبقى. سيذكر التاريخ أن فنانا مغربيا، يحمل في أصابعه ذاكرة الأندلس وأفق الصحراء، أوقف باريس للحظة وجعلها تصغي إلى لون جاء من الجنوب. الفن لا يحتاج إلى شهود، لأنه يعلو وحده، كالنور في أول الخلق. وها هو عبد القادر مسكار، في دوامة نوره الخاصة، يثبت أن الصباغة يمكن أن تكون شكلا من أشكال المقاومة، وأن الإنسانية، كما كتبها على لوحته، ليست شعارا بل وعدا قديما بالحياة، وعدا يتجدد كلما لامس اللون القلب.


الكاتب : لعروسي زكية / باريس

  

بتاريخ : 04/11/2025