فرانز فانون، الجزائر والحلم المغاربي 3/3

لكن ماذا يتبقى من الثورة الجزائرية ؟ لقد انتقلت الثورة الجزائرية بعد سرقتها بالقوة من قِبل الجيش،عبر عملية سرقة موصوفة منذ إزاحة «الجناح المدني السياسي»وتهميشه في مؤتمر الصومام،ومنذ انقلاب الهواري بومدين انتهى عهد الثورة الجزائرية و دخلنافي متاهات الانقلابات العسكرية التي عرفتها الجزائر لمدة نصف قرن،ومازالت تنتقم من الروح الوطنية عند الشعب الجزائري التي كانت تسكن ثورة الواحد من نوفمبر ، ومن أجل إبطال هذا الالتباس الذي يمَوه به عسكر الجزائر، نحتكم إلى التفريق بين معنى الثورة والانقلاب الذييقدمه الفيلسوف جميل صليبا،إن (الثورة تهدف إلى تغيير جوهري في أوضاع المجتمع لا يُتبع فيها طرق دستورية ، والفرق بين الثورة وقلب النظام، أن الثورة يقوم بها الشعب ، على حين، أن هدف الثورة تغيير النظام السياسي والاجتماعيأو الاقتصادي، وهدف الانقلاب مجرد إعادة توزيع السلطة بين هيئات الحكم المختلفة،(جميل صليبا المعجم الفلسفي1978) ومن مدخلات تدشين الجيش الجزائري لمسلسل الانقلابات منذ أن بدأ الانقلاب الأول مع الرئيس الهواري بومدين على سلفه أحمد بنبلة الرئيس الشرعي،بعد أن امتهن العسكر حق تمثيل «الشرعية الثورية «باسم المشاركة الميدانية في ثورة تحرير الجزائر،التي تحولت عند البعض مع مرور الزمن إلى «حق تجاري» يحتكره العسكر لوحدهم،و لا يختلف اثنان أن الجزائر منذ استقلالها 1962كانت و لا تزال تخضع لأولوية العسكري على المدني و أن اختيار الرؤساء كان من صلاحيات المؤسسة العسكرية على الرغم من محاولات صَبْغِهِم بالصباغة الشعبية، من خلال تنظيم انتخابات مزيفة كانت نتائجها معروفة سلفا ،كما حدث عام 1999مع الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة.
لقد اعتمد الجيش على حزب «جبهة التحرير الوطني»الذي تكونت قاعدته السياسية في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة منالطبقة الكومبرادورية،التي صارت تمارس تدوير عملية السمسرة لأنها برجوازية طفيلية مرتزقة لا تنتج شيئا، ويعتمد أفرادها على العمولات التي تأتيها من الوكلاء الذين يعملون كوسطاء في خدمة الأجنبي ،لقد اختارت الدولة الجزائرية العناد لكل نهج ديمقراطي بعد إفراغ حزب «جبهة التحرير الوطني» من كل توجه ثوري حقيقي،وصارت الجزائر عند كل منعطف سياسي تستحضر سردية الاحتماء بمكاسب «الشرعية الثورية « لصالحها ، وعملت على تأمينماضي الثورة الجزائرية عن طريق شرعنةاختياراتها الاقتصادية،واحتكرت الحديث عن أمجادها التاريخية المتضخمة دون معرفة بالحاضر والمستقبل، كما استعملَت مشاركتها في حرب التحرير كتعِلة و ذريعة ضد من ينازعوها الشرعية الثورية عن طريق إلصاق نعت «التخوين « وتُهَم المؤامرة ضد كل من يتمرد عليهم ،ولقد أدى النظر من خلال موقع مابعد كولونيالي إلى هذه «السردية الثورية « التي سادت تاريخ الجزائر منذ استقلاله،وتم اختلاقها بمثابة سردية شبه أبدية، إبان مرحلة الاستعمار بدعوى محاربته وتصفيته، لكنها (انتقلت بعد جلائه إلى مضرة، ذلك أن تأبيد هذه السردية قد يجر معه كل أشكال الانغلاق و التعصب،لأنها غالبا ما تقدِم للشعب المعني مع السلطة الحاكمة،صورة مشوهة و مضخمة عن تاريخه و انجازات ماضيه)، (م، كاظم جهاد حصة الغريب) و هذه الرؤية الملتبسة للسلطة الجزائرية تسعى إلى جعل رؤية الشعب متماهية إلى حد التطابق مع رؤية السلطة الحاكمة التي يمليها العسكر على الجميع، نتيجة لالتصاق الشعب الوجداني بثورته ، مما وَلد عند الجزائريين ظاهرة مستفحلة حتى اليوم، يحكيها لنا منصف المرزوقي رئيس تونس الأسبق، الذي فوجئ عند إلقائه لمحاضرات بالجامعة الجزائرية، أن الطلبة كانوا يمتعضون من آرائه و لايميزون بين نقد السلطة ونقدالشعب الجزائري و يخلطون بينهما، لأنهم مازالوا ضحية رواسب ثقافة الحزب الواحد الذي لا يقبل بالمعارضة والحق في الاختلاف.
لقد كشف الصراع بين جناحي العسكريين والمدنيين في مؤتمر الصومام أن العسكريين منذ انقلاب الرئيس هواري بومدين يغلب على قادتهم صفة «الأمية» الثقافية و أن مستوى قادتهم الدراسي جد متدني لا يتجاوز التلمذة في أقسام الشهادة الابتدائية أو الدراسة في «المسيد»القرءاني، و همما يزالون يحكمون الجزائر من جماعة «العقداء»إلى الآن،قال في حقهم عبان رمضان عند مواجهته لهم في مؤتمر الصومام»يجب على الفكر أن يسبق السلاح وإلا فإن هذه الثورة ستعود علينا وعلى شعبنا بالوَبال» بينما الاتجاه الآخر،يتكون من الجناح المدني و من ذوي مستوى التحصيل الدراسي المتميزأمثال عبان رمضان (الرياضيات ) محمد خيضر ويوسف بنخدة وعبد الحميد مهري ومحمد لمين دباغين و غيرهم ، لقد استشعر خطورة هذه الآفة التي كانت تلحق ثورة فاتح نوفمبر الكاتب الجزائري أمين الزاوي قائلا(إن الطبقة السياسية التي كانت تدبر جزائر الثورة التحريرية ومابعدها، هي طبقة غير مثقفة و هي طبقة في غالبها ذات أصول فلاحية تقليدية بحس ديني واضح،وهو ما خلق التيارات والأصوات المختلفة الأخرى،كما أن الطبقة التي استولت على الحكم في الجزائر عشية الاستقلال و لاتزال، هي نفسها حتى الآن ،كانت ترفض الشركاء المختلفين عنها في بناء الوطن ،وتعتقد أن كل من يختلف عنها هو بالضرورة عدو يجب تصفيته جسديا ووجودا،(أمين الزاوي،ماذا كان سيحدث لو أن أوروبيي الجزائر ويهودها لم يغادروا البلد بعد الاستقلال؟، أغسطس 2019) ولهذا لم تقدم الجزائر ما بعد الاستقلال من تراث ثوري سوى أفكار ضحلة تفصح عن مستوى قادتِها ، ولا أدل على ذلك،ما يتكرر من أقوال عن طريق السند إلى المرحوم هواري بومدين الذي نصح الجزائريين ،بأن تحرير فلسطين سيكون عن طريق (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ) التي مازال يرويها أحفاد العسكر في المنتديات السياسية ، ولقد قام النبي محمد بحصر دلالة هذا الحديث (إن كان حديثا صحيحا) عندما سألوه،كيف أنصره ظالما ؟ فقال الرسول ، تحجزه عن الظلم فذاك نصرك إياه،لأن نصر المظلوم واضح،لكن نصر الظالم معناه منعه من الظلم و حجزه عن الظلم هذا نصره،و لا نعرف لحد الآن ما هو التأويل الذي يقدمه أتباع بومدين في الإعلام الجزائري وفي الدبلوماسية الجزائريةعندما يتفاخرون بهذا الحديث الذي لا يعرفون معناه، وسياقاته التداوليةالمحلية والدينية الذي يستحضرونه عند رواية هذا الحديث،و يتجلى المستوى المتدني لقادة الانقلاب على الثورة الجزائريةأوعند بعض السياسيين من أتباع العسكر،أنهم يستعملون بعض الثنائيات البائدة التي عفا عنها الزمن،والتي تعود إلى عصر الحرب الباردة مثل مصطلحي الجمهورية والملكية عندما يعَيِرون المغرب في إطار المُلاججة السياسية، بأنه مجرد دولة «ملكية» تلصق به مجموعة من الصفات السلبية وأن نظام الجمهورية الذي تتبعه الجزائر، يرمز إلى الأنظمة التقدمية التي تتفوق على الدول الرجعية،بينما يمكن القول إن الغرض من هذه التصنيفات السياسية التمويه على ثنائية حداثية،تتحدد بين الانتماء إلى الدولة المدنية ومواجهة الأنظمة العسكرية، وهذا ما تطمح إليه شعوب العالم التواقة إلى التقدم والحداثة،و الدليل على ذلك، أن جل الدول ذات النظام الجمهوري العسكري مثل النظام العسكري في الجزائر صارت تصنف ضمن جمهوريات الموز الفاشلة.
ينتقد المفكر إدوارد سعيد (كل أشكال الحركات الانفصالية بدون استثناء سواء كان عرقيا أوقوميا أو دينيا ، وكذلك لأن الحركات الانفصالية تحرم نفسها من فرصة الانضمام إلى نمط مجتمع إنساني شامل،تصبح قضيته الملحة جزءا من قصية الإنسان أينما وجد وبغض النظر عن هويته العرقية أو الإقليميةأو الدينية )(مجمد شاهين إدوارد سعيد أسفار في عالم الثقافة 2007 ) إن نجاح الحَراك الجزائريرهينبعنصرين متلازمين ،هما مطلب الدولة المدنية ومبدأ التظاهر السلمي كفاتحة لعهد جديد، ولا خوف على الشعب الجزائري أن يتعثر في مساره مادام الحَراك الجزائري قادر على التصدي للمؤامرات التي تحاك ضد الشعب الجزائري من لدن ما يسميهم الجزائريون بعودة «العصابة» المكونة من «العقداء»بنياشين عسكرية يمثلون الطابور الخامس الذي تركته فرنسا لحمايةمصالحها، وهمالذينأُفرِج عنهم مؤخرا في إطار مؤامرتهم الخَسِيسة، التي تستهدف القضاء على ما تبقى من الثورة الجزائرية المغدورة ، عن طريق إعداد وطبخ عشرية جديدة سوداء ضد الشعب الجزائري الأعزل، لكي يستعيدوا زمام مبادرة الخيانة ،لكن الأمل في طائر فينيق الحراك الجزائري الذي يخرج كل مرة أقوى من رماده، كما أنهقادر على تننظيم مستقبل المقاومة الذي كما قال إدوارد سعيد «تكمن فيما هو جماعي» وذلكعبر الانخراط في جبهة مغاربية وحدوية تشمل المغرب و الجزائر وتونس و موريتانيا و ليبيا بالرغم أن هذا الحلم قد يبدو مستحيلافي ظل دولة العسكر ، لكن جذوة حلم الاندماج المغاربي التي تأخذ قبَسها من ثورة نوفمبر المجيدة مازالت مشعة أكثر من أي وقت مضى ،لأن هذا المسعى هو المستقبل الوحيد الذي يؤهلنا لنستمر في الوجود، في عالم لم يعد يعترف إلا بالتكتلات السكانية الكبرى، بهدف تحقيق أحلام روادنا المغاربيين الأوائل، الذين أسسوا لولادة الحلم المغاربي ،حيث لنا «في موعد النصر متسع للجميع» عندما نتغنى مع إدوارد سعيد الذي كان يقدر تقديرا خاصا رؤية الشاعر إيمي سيزير مؤسس حركة الزنوجة الشعرية، في قصيدته الملحمية»العودة» التي يقول فيها .
لكِنَما عمَل الإنسان لما يَبْتدئ بَعْد – وإنما يتبقى على الإنسان أن يَقهر—كل القسوة الهاجعة في حنايا هواه—وما من سُلالة تملك للجمال احتكارا—ولا للفكر و لا للقوة –وهناك مكان ومتسع للجميع– حيث ثَمة موعدمع الانتصار.


الكاتب : أنور المرتجي

  

بتاريخ : 16/01/2021