تبدو باريس العاصمة، وهي أكبر مدينة سياحية بالعالم، وكأنها فقدت سكانها وزوارها دفعة واحدة، وهو مشهد لم نعتد على رؤيته إلا في أفلام الخيال العلمي حيث تفقد مدينة كل سكانها بسبب وباء قاتل، أو في روايات مثل رواية»الطاعون « لألبير كامي ،حيث يتصور الكاتب إحدى مدن الجزائر فارغة من كل شيء.
هكذا كانت باريس، وأغلب المدن الفرنسية بعد تطبيق الحجر الصحي الشامل ومنع السكان من الخروج إلا بمبررات محددة، وهي إما العمل أو موعد مع طبيب أو ظروف عائلية قاهرة، مثل العناية بشخص مسن أو بالأطفال، أو من أجل السير بشكل منفرد ودون مرافقة، فالمدينة فارغة إلا في بعض النقاط كالصيدليات، التي يقف أمامها الزبناء في صف طويل جدا، وكل شخص مبتعد عن الآخر بمتر أو مترين، تطبيقا للنصائح الطبية المحذرة من العدوى، أما من نصادفهم من المارة القليلين فكلهم يضعون كمامات على أفواههم، وعند الاقتراب من أحد محلات بيع المواد العذائية نلاحظ الفوضى والحركة غير العادية، فالصف غير منتظم والتدافع أحيانا من أجل الدخول هو سيد الموقف، هذا بالإضافة إلى حالة الخوف البادية على بعض المنتظرين،وكأن المواد الغدائية سوف تنفد من الأسواق، رغم النداءات المتكررة للسلطات ولبائعي المواد الغذائية الذين يؤكدون أنه لا يوجد أي مشكل في تزويد الأسواق. وداخل المحل يلاحظ نفادعدد من المواد، خاصة المعلبات بمختلف أشكالها، والدقيق، والعجائن والأرز، وهي مواد تكاثر عليها الطلب.
وحسب أحد مسؤولي هذا المحل، فإن الطلب فاق التوقعات وفاق كل السيناريوهات، وأضاف أنهم تعودوا على الطلب الكبير في أعياد نهاية السنة، ولكن، في نهاية هذا الأسبوع، «فاقت أرقام بيع المواد الغذائية كل ما كنا نحققه في السابق».
وبالنسبة لوسائل النقل فلا يزال بعضها يشتغل رغم شغور مقاعدها من الركاب، كما أن أغلب المواقع السياحية، والمتاحف، والمسارح وقاعات السينما، ومحلات بيع الملابس ومختلف المواد غير الغذائية أقفلت أبوابها. لقد أصبحت باريس شبيهة بمدينة في فيلم سينمائي، خالية، وفارغة من سكانها وكأنها تعرضت لقصف نووي.
ورغم هذا الوضع إلا أن السلطات الفرنسية تكرر وباستمرار في وسائل الإعلام تحذير مواطنيها من مغبة الخروج إلا للضرورة، وأصبح كبار المسؤولين بدءا من رئيس الدولة ورئيس الحكومة يطالبون مواطنيهم بالبقاء في المنازل والنظافة وغسل الأيدي كل ساعة، وهو الطلب الذي لم يعد غريبا، لأنه لا ينفع أمام هذا الوباء الخطير الذي ينتشر بسرعة لا يمكن تصورها، إلا النظافة والعزل الاجتماعي، ووقف كل الأنشطة الجماعية. وفي هذا الإطار فرض رئيس الحكومة الفرنسية ذعيرة المخالفة في حق كل من لم يمتثل لهذا الأمر وغرامة 135 يورو (حوالي 1400 درهم).
أما في ما يخص الإعلام، بما فيه المرئي أو عبر الهاتف، أو من خلال لقاءات مصورة من مقرات عملهم، فيحرص المسؤولون الحكوميون على القيام بتدخلاتهم بخصوص هذا الوضع الذي تعيشه فرنسا، وفي هذا الإطار قال رئيس الحكومة إدوار فيليب في لقاء متلفز مع القناة الثانية من مكتبه، إنه يفرض على نفسه ما يطلبه من مواطنيه، وهو العمل عن بعد واستعمال وسائل التواصل.
هذه الجائحة غيرت كذلك الخطاب السياسي، فقد أعلن الرئيس الفرنسي حزمة من الإجراءات بملايير اليورو من أجل دعم مقاولات بلاده، وكذلك من أجل احتفاظ المقاولات بكل العمال من خلال تقديم تعويض عن التوقف عن العمل. وهي كلها إجراءات جد اجتماعية وفي صالح الأجراء.
من جانبه ذهب وزير المالية برونو لومير إلى أبعد من ذلك، وقال إن حكومته ستلجأ لكل الوسائل من أجل إنقاذ المقاولات الفرنسية بما فيها التأميم، بهدف حماية الشركات المهددة جراء انتشار فيروس كورونا. هذا الخطاب كان من غير الإمكان الادلاء به في زمن آخر خارج الأجواء التي فرضتها جائحة كورونا، وإلا كان سينعت بكونه من بقايا الشيوعيين بفرنسا.
وبعيدا عن أجواء الاقتصاد والسياسيين، يخوض رجال ونساء الصحة حربا ضروسا ضد انتشار فيروس كورونا بفرنسا، وهي حرب مخيفة أمام تزايد المصابين بهذا الوباء الذين وصل عددهم إلى 7730 حالة فيما بلغت حالات الوفاة 175 حالة، حسب ما ذكر مدير جهاز الصحة العامة جيروم سالومون، أول أمس الثلاثاء.
وخلال الساعات الأخيرة، تم تسجيل أزيد من 1097 حالة إصابة جديدة بمرض فيروس(كوفيد-19)، وعدد وفيات وصل 27 حالة.
وقال سالومون إن 2579 مريضا يتلقون العلاج بالمستشفى، بينهم 699 مريضا قيد العناية المركزة، بعد أن كان عددهم 400 مريض الاثنين.
من ناحية أخرى، تم علاج 602 مريض الذين عادوا لمنازلهم خلال عطلة نهاية الأسبوع.
وتبقى منطقة الألزاس هي الأكثر تأثرا بهذا الوباء، وأمام تزايد الحالات وعدم قدرة مستشفيات المنطقة على استقبالهم تم اللجوء إلى الجيش لنقل عدد من الحالات نحو مستشفيات الجنوب في اتجاه مدينة تولون. وأصبح مسؤولو الصحة يرددون أنهم سيكونون مجبرين، في القادم من الأيام، على اختيار من سيقومون بمعالجتهم من المصابين، وهو خيار صعب، لكن النظام الصحي سيكون مجبرا على تطبيقه من أجل مواجهة هذا المرض.