فريق «بلاك توليب».. جثث ضحايا الحرب ومقابرهم تحكي الكثير عن أهوالها حتى وإن كانت صامتة !

 

في مقال لموقع «ذي إينسايدر» من توقيع الصحافية «كاتي ليفينغستون»، وصفت حالة مدينة «سلوفيانسك» في «أوكرانيا» في العام الذي انقضى، منذ أن شن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» غزوا واسع النطاق لأوكرانيا (في 24 فبراير 2022)، التي باتت تتراكم فيها «جثث المدنيين والجنود في الغابات الملغومة، وفي الحقول المليئة بالحفر على طول الخطوط الأمامية لأوكرانيا»، حيث و (غالبا) ما يقع على عاتق المدنيين مثل «أوليكسي يوكوف» العثور على الجثث واستعادتها.. إذ قال: «في الحرب، تختلف وجهات النظر بخصوص قيمة الحياة من حيث صاحب الموقف»، وتابع: «مع كل جثة أراها، ووفاة بالقرب مني، أسعى لأن أصبح أكثر إنسانية من ذي قبل، لهذا أريد إنقاذ المزيد من الأرواح، وإعادة المزيد من الأجساد إلى عائلاتها، وكأنني مع كل مهمة، أحيي ذكرى هؤلاء الموتى، ومن خلال ذلك أصبح أكثر إنسانية من السابق».
يعيش يوكوف (37 عاما) مع زوجته وابنه البالغ من العمر عامين في «سلوفيانسك» (مدينة في شرق أوكرانيا تقع في منتصف الطريق تقريبا بين «خاركيف» إلى الشمال و»دونيتسك» إلى الجنوب( الذي يعتبر نفسه جزءا من فريق «بلاك توليب» (Black Tulip) جله من المدنيين الأوكرانيين، والذي يتولى «مهمة إنسانية» ل»نقل الموتى من ساحات القتال أو استخراج الجثث المدفونة عشوائيا واستعادتها في الأراضي المحررة حديثا».. يقدر «يوكوف» أن فريقه انتشل ما لا يقل عن 800 جثة منذ بداية عام 2022، لكن هذا «جزء صغير» ممن يقبعون دفونين هناك. من جهتها، سجلت «الأمم المتحدة» مقتل أكثر من 7 آلاف مدني من بينهم 438 طفلا منذ فبراير (السنة الماضية)، في حين قدر «مسؤولون أمريكيون» أن أكثر من 40 ألف مدني قتلوا في هذا الصراع.
يعتقد الخبراء في المجال العسكري والاستخباراتي، أن «الخسائر العسكرية كانت عظيمة على كلا الجانبين، مقدرين أن أكثر من 100 ألف جندي أوكراني وضعف عدد القوات الروسية قد قتلوا أو أصيبوا بجروح خطيرة في العام الماضي»، ويمكن أن يترجم هذا إلى عشرات الآلاف من الجثث التي تركت وراء كلتا الجبهتين وسنوات عديدة من العمل الجماعي ل»جامعي الجثث»، معقبا (يوكوف) «يجب احترام كل روح، وإعادة تلك الجثث لعائلاتها، كما ينبغي دفنها بشكل لائق، وليس مجرد تركها لتتعفن في ميادين الحرب».

*»بلاك توليب».. عمل دؤوب لإكرام الموتى

قبل عقد من الزمان، أطلق «يوكوف» منظمة «بلاتسدارم» (Platsdarm) (باللغة الإنجليزية)، وهي «منظمة غير حكومية» تركز على «العثور على الرفات المنسية للأشخاص الذين لقوا حتفهم في الحرب العالمية الأولى والثانية، وأيضا عندما كانت «أوكرانيا» جزءا من «الاتحاد السوفيتي» وخلال فترة «هولودومور»، وهي «مجاعة» هندسها «ستالين» في 1930، كان قد اعتبرها «البرلمان الأوروبي» ب»الإبادة الجماعية».
لطالما اعتبر الأوكرانيون أن «عدد قتلاهم خلال القرن 20، كان أعلى بكثير من الأرقام التي طرحتها الدعاية السوفيتية والروسية. يتضح ذلك جزئيا من الجثث التي تركت مخبأة في الريف الأوكراني»، لذلك كانت مهمة «يوكوف» هي إثبات ذلك ونتج عنها عيش «تجارب مؤلمة»، إلا أنها وضعته أيضا على مسار حياته الحالي، قائلا: «لقد كنت أبحث عن الجثث لمدة 24 عاما في هذه المرحلة من حياتي».
في عام 2014، عندما غزت «روسيا» كل من «شبه جزيرة القرم» ومنطقة «دونباس» في «أوكرانيا»، ساعد «يوكوف» في بدء مهمة «بلاك توليب». انتقل عمله، ما بين الماضي إلى الحاضر، من حفر قبور الجثث، التي تعود إلى عقود، إلى إزالتها من منطقة حرب نشطة.. في وقت سابق، تحولت مدينة «سلوفيانسك» التي ينتمي إليها يوكوف أول عاصمة كبرى يسيطر عليها الانفصاليون المدعومون من روسيا، وشهدت «قتالا عنيفا» عندما حررتها القوات الأوكرانية بعد 3 أشهر. في وقت مبكر من هذا الغزو، تم القبض على يوكوف من قبل «وحدة مدعومة» من روسيا، واتهم بأنه «خائن» مذكرا بأنه تجنب ب»صعوبة» القتل في ذلك اليوم، بعد أن تعرض آسروه لإطلاق نار. بعدها بفترة، وقع مرة أخرى في أيدي الروس، قبل أن يتعرف عليه أحد خاطفيه وينقذه، قائلا: «لم ندرك أنك رجل الجثث!».
وقال «يوكوف» إنه منذ عام 2014 حتى أوائل عام 2022، انتشل فريقه ما يقرب من 1000 جثة !. في 24 فبراير 2022 تولت «وحدات J-9» العسكرية مهمة جمع وانتشال جثث القتلى، لكن آلاف الجثث يمكن أن تترك بعيدة عن الأنظار، هنا يأتي دور فريق «يوكوف» أو «بلاك توليب» التي يتمتع أعضاؤها في كثير من الحالات بسنوات من الخبرة في تحديد أماكن الموتى والتعرف عليهم واستخراجهم، وأيضا في المساعدة على إعادتهم إلى أي جانب لدفنهم بكرامة. في نفس السياق، يقول «يوكوف» إن : «عملية الاسترجاع «متطابقة» بالنسبة للجثامين سواء الأوكرانية أو الروسية.. يتم إعادة «الجثث الأوكرانية» في أسرع وقت ممكن إلى ذويها، بينما يتم نقل «الجثث الروسية» إلى أيدي «الحكومة الأوكرانية» حتى يمكن استبدالها بالأوكرانيين في حوزة القوات الروسية..».
في آخر إحصاء، كان المدعي العام الأوكراني يحقق في أكثر من 50 ألف جريمة حرب «مزعومة» ارتكبتها «القوات الروسية «خلال الحرب. إن عمل «جامعي الجثث» يشبه «توثيق» كيفية وفاة شخص ما، ويمكن أن يساعد المحققين على تحديد ما إذا كانت جريمة حرب قد ارتكبت والتوصل لمن ارتكبها»، كما قالت «بليندا كوبر» الأستاذة في «مركز الشؤون العالمية» ب»جامعة نيويورك» و»معهد جامعة كولومبيا» ل»دراسة حقوق الإنسان». وقالت: «يمكن أن يساعد عملهم في مقاضاة وإدانة جرائم الحرب»، وتضيف: «لا يمكن للناس المضي قدما حتى يعرفوا ما حدث لأحبائهم».
في يناير، فقد «فريق يوكوف» أول عضو فيه. قتل «دينيس سوسنينكو»، وهو «بطل وطني» سابق في «الكيك بوكسينغ» أصله من «سلوفيانسك» أيضا، عندما كان يقود سيارته ومر فوق لغم مدفون مضاد للدبابات أثناء قيامه بمهمة لصالح «بلاك توليب». ذكر يوكوف حينها، أن اللغم الذي أودى بحياة عضو فريقه، صنع من «أجزاء بلاستيكية» مما يجعل اكتشافها أكثر صعوبة ! كان «سوسنينكو» (21 عاما)، قد انضم إلى المجموعة في العام السابق، ولم يبدأ في الخروج في البعثات إلا مؤخرا، بعد الانتهاء من تدريبه. يقول «يوكوف»: «نحن على علم أن «الموت»، وفي كل مرة نذهب فيها في مهمة، (بغض النظر عن عدد الإجراءات الأمنية التي نتخذها) سيكون أكبر خطر يحيط بنا. علينا أن نفهم أن وفاة «دينيس» هي «تأكيد» على أن العمل الذي نقوم به محفوف بالمخاطر بشكل لا يصدق».. لم تستثن الإصابات يوكوف كذلك، حيث أصيب 18 مرة ب»جروح خطيرة»، كما أن لديه «عينا اصطناعية» من جرح تسببت فيه «شظية» أصيب بها منذ سنوات، واضطر إلى إجراء «عملية جراحية» في ركبته نتيجة لمهمة أخرى. يذكر «يوكوف» أنه كان «الأكثر تضررا» من «سنوات الحرب» و الصدمات التراكمية التي انهالت عليه، غير أن ألمه لا يقارن بما يعيشه الأوكرانيون من خطر يحوم حولهم، ويضيف «يموت الناس وهم في منازلهم، عندما يتم إسقاط قنبلة عليهم، كما يمكن أن يموت الناس وهم جالسون على أفرشتهم.. ما يعني أن لا أحد في مأمن من كل هذا».

صمت المقابر.. يخبرنا الكثير عن الحرب !

في دجنبر (العام الماضي)، دعا «يوكوف» الصحفيين لمرافقة طاقمه في مهمة خارج سلوفيانسك. في ذلك الصيف، تقدمت «القوات الروسية» إلى مسافة 16 كلم (10 أميال) من المدينة، مصممة على «احتلال مركز النقل والخدمات اللوجستية الإقليمي»، ولكن تم صدها بسبب «هجوم مضاد أوكراني» ضخم. بات الوضع الآن أكثر هدوءا، لكن المنطقة لا تزال تتعرض ل»الهجوم من الجو».. تبدأ كل مهمة «انتشال» للفريق بنفس الطريقة: يعمل «يوكوف وفريقه» بمبدأ الدخول والخروج السريع، أي أن هناك فردين يقومان بالمهمة (دوام كامل) و7 مرافقين آخرين يدخلون ويخرجون ويطوقون «موقع المقبرة» ب»شريط ملون». يعتبر العمل نفسه «حساسا جدا»، بسبب الحاجة إلى «احترام الموتى» و»تجنب الألغام» أو «الشراك الخداعية» الأخرى التي قد تكون مخبأة في مكان قريب». كان من المفترض أن يكون فريق «إزالة الألغام» قد أنشأ بالفعل «مسارا آمنا» من «موقع القبر» إلى الطريق، لكن «فريق يوكوف» لا يزال «يوخز» الجثث وما حولها ب»عمود معدني طويل» قبل محاولة تحريك أي شيء أو الاقتراب أكثر من اللازم».
يتطلب هذا «العمل» الكثير من «الصبر» أيضا. يمكن أن يستغرق البحث والدفن في «موقع قبر واحد أياما» حتى ينتهي منه الفريق، خاصة في «فصل الشتاء» عندما تكون الأرض «صلبة ومتجمدة». بمجرد اكتشاف الجثث، يرتدي الفريق قفازات مطاطية زرقاء، بعدها يبدأ العمل على استخراج الجثث. بغض النظر عن الموسم أو الفصل، تصبح «الرائحة» أقوى بكثير، ولذلك يجب أن يعمل الفريق بأقصى سرعة ممكنة، وغالبا ما يعملون في الليل، مع الحرص على احترام وتكريم جثث الموتى (متفحصين في حالة الجنود، زيهم الرسمي ، بحثا عن معرفة الكتائب العسكرية أو علامات تدل على طرق الوفاة من بينها عضات الكلاب أو جثتها (الكلاب المرافقة). كجزء من «عملية التوثيق»، يلتقطون صورا للجثث في مثواها الأخير، مع أي متعلقات يجدونها بجانبهم». يذكر «يوكوف» خلال إحدى مهماته أن: «العظام تقول الكثير. إنني أتصادف مع الموت في كل مكان ( لا تشبه إحصاءاتنا نظيراتها التي تراها في الأخبار).. إنني أرى الناس وكيف يواجهون الموت، وفي نفس اللحظة التي يحدث فيها، وأرى الموقف الذي مات فيه ذلك الشخص والظروف التي مات فيها أيضا»…
لقد اعتاد صديقنا على رؤية الموتى، إلى جانب الأصوات والروائح البشعة التي تأتي مع هذا العمل، لدرجة أنه بات لا ينزعج من تلك المشاهد والأجواء، غير أنه «يعلم أن ثقل كل هذا الموت له تأثير أعمق عليه سيزداد بمرور الوقت»، واصفا ذلك الشعور ب: «إنه يغيرني (في الداخل) وفي كل مرة أخرج فيها إلى هناك..».


الكاتب : ترجمة: المهدي المقدمي عن : «ذي إينسايدر»

  

بتاريخ : 02/03/2023