فسيفساء فنية بطعم خوارزمي في تجربة الفنان عبد القادر مسكار

تعتمد الخوارزمية على ثلاث قواعد مؤسسة لمفهومها وهي: التسلسل، الاختيار والتكرار، كلها عناصر تختزلها التجربة التشكيلية للفنان عبد القادر مسكار، على شكل رقعة شطرنج تستدعي معرفة ذكية بحيل هذه اللعبة، التي جمعت بين مرجعيات ثقافية وفنية متعددة على مستوى الحفر في الموروث الهوياتي في الثقافة المغربية بكل تنوعاتها، لذلك كانت رؤيته واختياره لمشروعه الفني من الزاوية الخوارزمية بتداعياتها، سببا رئيسيا لاقتحام هذه المغامرة من خلال طرح أهم الأسئلة المطروحة ذهنيا وتطبيقيا.
فإذا كان التكرار المتسلسل كاختيار لنوعية البحث في دواليب أسرار تجربته، فإنما كان الغرض منه، هو إعادة تركيب العمل التشكيلي بعد هدمه بعناصر أيقونية انطلقت من الجزء للكل وليس العكس، مع مراعاة للشرط الجمالي في إطار وحدة متناسقة على مستوى التكوين في علاقته بفضاء السند، فكان تجميع كل هذه الأيقونات هو تجميع في حد ذاته لذاكرته عبر محطات رحلية تاريخية استفاد منها عبر تنقلاته وإقامته بعدد من الأمكنة سواء في المغرب أو خارجه، على شكل أرخبيلات تحيلنا على نسخة من خرائط محمد بن محمد الإدريسي الهاشمي.
يقول النحات الفرنسي من أصل هنغاري «إتيان هاجدو» في أحد تصريحاته التي أصبحت من القواعد النظرية في التشكيل المعاصر ما يلي:
«Celui qui arrivera à créer une forme plus que la forme géométrique ou aléatoire, sera une très grande découverte»
«من استطاع أن يبدع شكلا آخر غير الشكل الهندسي أو العشوائي فسوف يكون اكتشافا رائعا».
لذلك يمكن أن نعتبر تجربة الفنان مسكار من بين التجارب التي تبحث في هذا السياق، عما هو غير مألوف، فكان عمله جزءا لا يتجزأ عن الملحمات المشهدية التي توحي باحتفالية لا تخضع للنمطية أو للتصنيف، لأن تجربته برمتها تتقاطع في اتجاهين مختلفين هما التشخيص والتجريد فوق سند موحد، لجعل المستحيل ممكنا، مما سيفضي إلى اختيارات متحررة من التقليد بتجاوزاته للفضاءات المغلقة التي كانت تحددها الإطارات بأشكالها الهندسية (المربع، المستطيل والدائرة).
يقول الفنان الفرنسي «مارك شاغال»: «أنا لست برسام جيد، ولكن ملون جيد».
إن المتأمل في تجربة عبد القادر مسكار، سيقف على تفاصيل كل حكاية تعكسها أعماله على حدى، وتحيلك على منفذ خوارزمي متسلسل لسرديات غنية بمعطياتها التاريخية والثقافية المرتبطة بالتراث والهوية المغربية، بل وحتى الجغرافية منها من خلال علامات ورموز تشكل دلالات جمالية تستدعي لقراءة سيميائية لها علاقة برقعة جغرافية محددة تحيل على نوستالجيا ذاتية، تفاعل فيها الشكل واللون بالموضوع، بحس طفولي يعانق أفق كل الأحاسيس الراقية للإنسانية، بتقنية بسيطة ممتنعة كان اللون فيها سيد الإبداع، فهو يشبه إلى حد ما لما أشرنا إليه سالفا في تصريح الفنان الفرنسي مارك شاكال، بمعنى أنه أعطى للون بكل تدرجاته سلطة الهيمنة على الشكل، وجعل من الأزرق عنوانا دامغا لأبحاثه الكروماتيكية.
فالغموض في تجربة الفنان مسكار من بين أهم المحاور المطروحة من خلال تساؤلاته، ليصير هو الآخر فردا عاديا، انتقل من ذات المبدع إلى الضفة الأخرى كمشاهد ومتأمل فقط، ليكتشف برزخ الوضوح كذات محايدة تطل من شرفة المبدع والناقد معا، حيث اتخذ من التقنية بكل حيثياتها العلمية والحرفية ذريعة وجسرا للعبور إلى أهم القضايا الموضوعية التي تهمه كفنان ينتمي لثقافة وحضارة ما، بعيدا عن ما تسيغه كل الكتابات النقدية في التشكيل حول تقنيات الإنجاز، دون الإشارة إلى القاعدة الأساسية التي تنطوي عليها تجربته فكريا، ليتخلص من رواسب التأثير الأكاديمي والانغماس في خبايا ذاته والوقوف على القوة الكامنة بدواخله، لذلك التجأ لاستعمالات أيقونية أعطت لعمله بعدا ثالثا بنتوءاته الغائرة والبارزة، باستعماله الكتاب عنصرا من عناصر التجميع المركب للتكوين الإجمالي للعمل كسند، يروم ليس فقط الجانب البصري بل العلمي والفكري كذلك.
لا يمكن أن تتحدد هوية الفنان وانتمائه لوطنه إلا من خلال طريقة اشتغاله ومرجعيته الثقافية، لذلك عمل الفنان عبد القادر مسكار بكل جدية على نحت صورته وشخصيته بتلك العفوية كإرث حضاري بمنظومة عقلانية وطفولية في نفس الآن، انطلاقا من خربشات توليدية لرسومات تلقائية نابعة من عمق الإحساس المتجدد ببراءته في كل عمل مستقل بذاته، ليحدد معالم مسيرته المتميزة.

(على هامش المعرض الأخير للفنان عبد القادر مسكار
برواق ضفاف بالرباط من 8 دجنبر 2022 إلى 7 يناير 2023)

* (تشكيلي/ ناقد)


الكاتب : شفيق الزكاري *

  

بتاريخ : 27/12/2022