يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد السكان الأصليين من جهةٍ عدّة فُرقاء لإجبارهم على تسليم بلادهم إلى شعب آخر غصبا عنهم وضد إرادتهم، وفهم حقيقة أن هذا الصراع الاستعماري الذي جرى بدعم هائل من قوى خارجية، أصبَحَ مواجهة قومية بين
جهتين قوميتين جديدتين وبين شعبين.
كما يتطرق الكتاب “ حرب المئة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة (1917-2017)” ، وإلى الجدل واختلاف وجهات النظر بين زعماء الصهيونية وميولهم، وبين دعوة هرتسل الصريحة لإنشاء دولة لليهود تتمتع بحق “السيادة” للسيطرة على الهجرة.
كـان هرتسـل زعيم الحركة الصهيونية الناشئة قـد قـام بزيارته الوحيدة إلى فلسطين سنة 1898 في ذات الوقـت الـذي زارهـا فـيـه قيصر ألمانيـا ويـلـهـلـم الثـاني Wilhelm II . كان قد بدأ صياغة أفكاره حول بعض قضايا استيطان فلسطين، وكتب في مذكراته سنة 1895: «يجب أن نستولي بلطف على الممتلكات الخاصة في المناطق المخصصة لنا. يجب أن نشجع الشعب الفقير فيما وراء الحدود للحصول على عمل في بلاد اللجوء وعدم منحهم أي فرصة عمل في بلادنا. سيقف ملاك الأراضي في صفنا. يجب تنفيذ سياسات الاستيلاء
على الأرض وتهجير الفقراء بتحفظ وحذر».
انخفض عدد السكان الأصليين أكثر بسبب القمع القاسي للثورة العربية الكبرى في فلسطين ضد الحكم البريطاني في 1936-1939 إذ قُتِل خلالها 10% من الذكور العرب البالغين أو جُرحوا أو سجنوا أو تم نفيهم. استخدم البريطانيون مئة ألف جندي وقوات جوية للسيطرة على المقاومة الفلسطينية، بينما تدفقت موجات ضخمة من الهجرة اليهودية نتيجة للاضطهاد النازي في ألمانيا مما رفع عدد السكان اليهود في فلسطين من 18 %من عدد السكان الكلي سنة 1932 إلى أكثر من 31 %سنة 1939.
يعتمد كتاب « حرب المئة عام على فلسطين: قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة (1917-2017 )» من ترجمة عامر الشيخوني،على البحث الأكاديمي والبعد الشخصي ….
احتاج الوضع إلى كل جبروت الإمبراطورية البريطانية التي لم يمكن إطلاقها إلا بعد أن توفّرت قوات إضافية بعد اتفاقية ميونيخ في سبتمبر 1938 وإلى سنة أخرى تقريباً من القتال العنيف لكي تتمكن من قمع الثورة الفلسطينية. ظهرت خلافات عميقة بين الفلسطينيين، فقد رحّبَ بعضُهم ممن ينتمون إلى الأمير عبد الله في الأردن وأيَّدوا بهدوء اقتراح التقسيم الذي طَرَحَتْه لجنة بيل لأنهم كانوا يُفضّلون الانضمام إلى المنطقة شرق الأردن من فلسطين التي لم تكن ستتحول إلى الدولة اليهودية الجديدة. إلا أن معظم الفلسطينيين عارضوا بشدة جميع جوانب اقتراحاتها سواءً كانت تقسيم بلادهم، أو تأسيس دولة يهودية فيها مهما كانت صغيرة، أو ترحيل معظم سكانها العرب عندما وصلت الثورة إلى ذروتها في أواخر سنة 1937 وبداية سنة 1938 ظَهَرَ خلاف قاتل أكثر شدة بين الفلسطينيين وانقسام مرير بين أتباع المُفتي الذين كانوا يرفضون أي تنازل للبريطانيين وبين معارضيه بقيادة محافظ القدس السابق راغب النشاشيبي الذين كانوا أكثر استرضاء للبريطانيين. كان رأي عيسى العيسى هو أن الصراع بين الفلسطينيين هو الذي أدّى إلى مقتل مئات منهم في أواخر الثلاثينيات واستنزف قوة الفلسطينيين بشكل قاتل. اضطر هو أيضاً للمغادرة إلى بيروت سنة 1938 . تهديد حياته وحرق بيته في رام الله وخسارة جميع كتبه وأوراقه. لا يوجـد شـك بأن ذلك كان من فعل رجال المُفتي مما جعله يشعر بمرارة عميقة. وكتب قائلاً: “كانت الثورة موجّهة في بدايتها ضد الانكليز واليهود…. إلا أنها تحوّلت إلى حرب أهلية وأصبح فيها الإرهاب والنهب والسلب والإحراق والقتل أساليب عادية “. بسبب على الرغم من التضحيات التي قُدِّمَتْ والتي يمكن تقديرها من الأعداد الكبيرة للفلسطينيين الذين قُتِلوا أو جُرحوا أو سجنوا أو تم نفيهم، وعلى الرغم من النجاح الأولي للثورة إلا أن نتائجها كانت سلبية بشكل كامل تقريبــا علـى الفلسطينيين. أدّى القمع البريطاني العنيف ووفاة ونفي كثير من الزعماء والصراع والاختلاف بين فصائل الفلسطينيين إلى تركهم متفرّقين ومنقسمين في كل اتجاه وإلى إنهاك اقتصادهم بعد قمع الثورة في صيف 1939. جَعَل ذلك الوضعُ الفلسطينيين في موقف ضعيف جداً بمواجهة الحركة الصهيونية التي تنشطت وأصبحت أكثر قوة خلال الثورة وحصلت على كميات كبيرة من الأسلحة والتدريب الشامل على يد البريطانيين لمساعدتهم في قمع الثورة.
خيم شبح الحرب على أوروبا سنة 1939 وواجهت الإمبراطورية البريطانية تحديات عالمية كبيرة بالإضافة إلى نتائج الثورة العربية مما أدى إلى حدوث تغيّر مهم في سياسة لندن بعيداً عن تأييدها التام السابق للصهيونية. وبينما كان الصهاينة مسرورين بقمع بريطانيا الساحق للمقاومة الفلسطينية فقد واجه زعماؤهم في هذا التغير الجديد موقفاً حَرِجا. وبينما كانت أوروبا تنحدر لا محالة نحو حرب عالمية أخرى، فقد عرف البريطانيون أن جزءاً من هذا الصراع سيحدثُ جزئيا مثل سابقه على أرض عربية، وأصبح ضرورياً للمصالح الإستراتيجية الامبريالية الجوهرية تحسين صورة بريطانيا وتبديد الغضب الذي حَدَثَ بسبب القمع العنيف للثورة الكبرى في الدول العربية والعالم الإسلامي خاصة وأن تلك المناطق كانت تُعْرَقُ بدعاية دول المحور عن فظائع البريطانيين في فلسطين. أوصى تقرير في يناير 1939 إلى الوزارة بتغيير المسار في فلسطين وركّز على أهمية “كسب ثقة مصر والدول العربية المجاورة “. تضمن التقرير ملاحظة من وزير خارجية الهند الذي قال “مشكلة فلسطين ليست مشكلة عربية فقط ولكنها تصبح بسرعة مشكلة إسلامية عامة”، وحذر بأنه إذا لم يتم التعامل مع “المشكلة” بشكل سليم فإن “مشكلة خطيرة في الهند تجب السيطرة عليها.
بعد فشل مؤتمرٍ عُقِدَ في ربيع 1939 في قصر سانت جيمس في لندن ضم ممثلين عن الفلسطينيين والصهاينة والدول العربية، أصدرت حكومة نيفيل تشمبرلين Neville Chamberlain ورقة بيضاء في محاولة لاسترضاء غضب الفلسطينيين والعرب والرأي الهندي المسلم. دعَتْ هذه الوثيقة إلى تقليص شديد في التزام بريطانيا بالحركة الصهيونية، واقترحت تحديداً صارماً للهجرة اليهودية وبيع الأراضي وهما مطلبان رئيسيان من مطالب العرب ووعَدتْ بخَلق مؤسسات تمثيلية خلال خمس سنوات وحق تقرير المصير خلال عشر ( وهي أهم المطالب). وعلى الرغم من تحديد الهجرة عملياً، إلا أن بقية الوعود لم تنفذ تماما. كما أن خَلقَ مؤسسات تمثيلية وحق تقرير المصير كانا مشروطين بموافقة جميع الأطراف، وذلك ما لم تكن الوكالة اليهودية ستوافق عليه أبداً لأنه سيمنع تأسيس دولة يهودية. يوضح محضر اجتماع الوزارة في 23 فبراير 1939 أن بريطانيا كانت تقصد منع تنفيذ جوهر هذين التنازلين الأساسيين للفلسطينيين لأن الحركة الصهيونية سيكون لها عمليا حق النقض الذي سيُستخدم لا محالة. ربما حصل الفلسطينيون على امتياز بسيط بقبولهم الورقة البيضاء لعام 1939 على الرغم من نقائصها من وجهة نظرهم . لم يصدّق حسين الخالدي أن الحكومة البريطانية كانت مُخلِصة في أي من وعودها. ذكر بمرارة أنه أدرك في مؤتمر قصر جيمس الذي حضره بعد إخراجه من منفاه في جُزر سيشيل أن بريطانيا «لم تكن تريد فعلاً ولا حتى للحظة واحدة أن تكون مخلصة لوعودها». كان واضحاً بالنسبة له من الجلسة الأولى أن المؤتمر كان وسيلة لكسب الوقت ولتخدير العرب لا أكثر ولا أقل… ولكي تخدع العرب لكي يوقفوا ثورتهم» ويمنحوا البريطانيين «الوقت لالتقاط أنفاسهم بينما كانت غيوم الحرب تتجمع ). ومع سانت ذلك فقد فضَّل اتخاذ موقف مَرِنٍ إيجابي من الورقة البيضاء مثلما فَعَلَ زعماء فلسطینیون آخرون مثل موسى العلمي وجمال الحسيني ابن عم المفتي). وفي النهاية، أصرَّ المُفتي على الرفض التام بعد أن أشار إلى أنه يميل إلى القبول، وغير موقفه الحالة في ذلك اليوم. بعد مؤتمر قصر سانت جيمس، عاد البريطانيون إلى نفي حسين الخالدي إلى لبنان هذه المرّة. وعندما شاهَدَ ما آلت إليه الثورة أمام القمع البريطاني الشديد وكيف كان موقف الفلسطينيين صـعبـا فقـد دعـا حسين الخالدي إلى وقف المقاومة، ولكن تمّ تجاوز رأيه في هذه المرة أيضاً. كان الأمر متأخراً على كل حال فلم يكن أمام حكومة تشمبرلين سوى أشهر قليلة في الحكم عندما أصدرت الورقة البيضاء ودخلت بريطانيا الحرب بعد ذلك بقليل واستلم وينستون تشرشل رئاسة الوزارة بعد تشمبرلين وكان أكثر المسؤولين البريطانيين حماساً للصهيونية. وأهم من ذلك كله هو أن الحرب العالمية الثانية تحوّلت بالفعل إلى صراع دولي مع الغزو النازي للاتحاد السوفييتي ودخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب بعد بيرل هاربور. عالم جديد كان في طور الولادة ستصبح فيه بريطانيا قوة عظمى من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال. لن يظل مصير فلسطين بيدها، ولكن كما لاحظ الدكتور حسين بمرارة كانت بريطانيا في تلك المرحلة قد أدَّت واجبها بشكل أكثر من جيد لربيبتها الصهيونية.
هناك اتفاق بين المؤرخين الموضوعيين أن ذلك التصادم الذي دعمته عصبة الأمم قوَّضَ تماماً كل فرصة لنجاح النضال الفلسطيني للحصول على مؤسسات تمثيلية وحق تقرير المصير والاستقلال الذي آمنوا بأنه من حقهم ما الذي كان على الفلسطينيين عَمَلُهُ للخروج من هذا المأزق الثلاثي هو سؤال تستحيل الإجابة عليه. اعتقد بعضهم بأنه كان عليهم التخلي عن الطريقة القانونية التي كانت مفضّلة لدى قيادتهم المحافظة باعتراضاتها الفارغة المتزايدة وإرسال وفود إلى لندن لمطالبة البريطانيين بحسن النية «والعدالة». واقترح هؤلاء بدلاً عن ذلك مقاطعة البريطانيين كليا ورفض التعاون مع الانتداب (مثلما فعل حزب المؤتمر في الهند أو الشين فين في إيرلندا)، وإذا فشـل ذلـك فـقـد كـان عـلـيـهـم السير على الطريق الذي سار عليه جيرانهم العرب ورفع السلاح بشكل أبكر مما فعلوه في النهاية. وعلى كل حال فقد كانت أمامهم خيارات جيدة قليلة في مواجهة الثلاثي القوي: بريطانيا والحركة الصهيونية وانتداب عصبة الأمم، بالإضافة إلى عدم وجود حلفاء مُهمين فيما عدا تأييد رأي عام عربي غير مُنَظَّم وغير مُتماسك وقف معهم بقوة حتى من قبل سنة 1914 وببشكل متزايد في الفترة ما بين الحربين. ولكن لم تتمتع أية دولة عربية بالاستقلال التام آنذاك فيما عدا المملكة العربية السعودية واليمن، وفي الواقع كانت جميع هذه الدول مازالت تحت تصرف البيرطانيين والفرنسيين، ولم تتمتّع أي منها بمؤسسات ديموقراطية بحيث يمكن أن يُعَبر هذا الرأي المؤيد للفلسطينيين عن نفسه بشكل تام.
عندما غادر البريطانيون فلسطين سنة 1948 لم تكن هنالك حاجة لِخَلق أجهزة دولة يهودية من لا شيء، فقد كانت هذه الأجهزة تعمل بشكل واقعي تحت حماية البريطانيين فترة عقود. كل ما كان يحتاجه تحقيق حلم هرتسل ونبوءته هو أن تأخذ شبه الدولة التي كانت قائمة بالفعل بِعَرض عضلاتها ضد الفلسطينيين المنهكين والحصول على السيادة الرسمية، وذلك ما حدَثَ في مايو 1948. مستقبل فلسطين كان قد تقرر قبل ذلك بثلاثين عاماً على الرغم من أن الوثيقة لم توجد حتى نهاية الانتداب عندما تم سَلبُ الغالبية العربية بالقوة في النهاية.
( انتهى )