لم أكن أتصور أن يصل بي الأمر إلى حَدّ أن تجرّني مُجرد عواطف جياشة إلى التحقيق الأمني!
لم أورّط نفسي وحدها، بل تسببت في جرّ آخرين، وإتعاب آخرين.. هل أنا متهور؟ أم أتدخل في ما لا يعنيني دون تقدير العواقب؟ أم عَـطفي المُبالغ فيه تجاه ظواهر اجتماعية، ما قادني إلى مشارف الهاوية؟
حدثتِ الواقعة في صبيحة يوم ربيعي مشمس.. كنتُ قد حللت قبل نصف يوم بمدينة تَملِك رصيدا زاخرا مِن عبق التاريخ وثقله، مآثر شامخة في كل مكان، شاهدة، تملأ النظر والوجدان..
بعد تناول فطور متأخر، والسباحة الافتراضية المعتادة في بحر الشبكة العنكبوتية، ارتأيت أن أغادر الفندق وأقوم بجولة سيرا على قدميّ، سرتُ بمحاذاة سور عال يحرس المكان منذ غابر الأزمان، وعلى يساري أبنية حديثة واطئة..
أمامي وكالة مصرفية، على بابها الضيق تجمُّعٌ بشري بغير انتظام، ما يربو على عشرين شخص، نساء ورجال، جلهم في حركة دائبة، في شبه تدافع، لكن بدون شدة ظاهرة، كأنهم تداعوا على قصعة كسكس يتناوبون عليها، لعلهم يرغبون في الدخول دفعة واحدة..
قُـبالة هذا المشهد الطافح بمحليته التي تتكرر باستمرار، رأيتُ كوكبة مِن السياح الأجانب، ملتفّين حول مرشد سياحي يحفّز موهبته أكثر، ليشرح للسائحين شيئا لم أتبيّـنه، منقوشا على أعلى بوابة مقوّسة..
اقتربتُ أكثر لعلي أخرج بفائدة، وقفت بجانب رجل أربعيني بقيّ شاردا في منأى عن زملائه وزميلاته، غير مكترث بما يجري حوله.. أطول مني، يرتدي ألبسة صيفية، كأنّ دفء فصل الربيع عنده بمثابة حرّ مفرط! يعتمر قبعة تُحدثُ ظلا على وجهه ونظارتيه الطبيتين، يعلق على كتفه حقيبة جلدية صغيرة، سيقانه كثيرة الزغب، وأصابع قدميه تظهر من خلال صندل كثير الفتحات..
لم يصل ما يُفيد إلى سمعي مما يَستغرق فيه نفسَهُ المرشدُ السياحيُّ، لا يتوقف عن الكلام مستعينا بحركات عشوائية مِن يديه، كهل، متوسط القامة، بلحية بيضاء مشذبة، على رأسه قبعة شمسية بحواف دائرية، حادّ النظر بعينيه الضيقتين، يلتفت بحذر إلى جميع الاتجاهات..
لم أقرر ما أفعله، حتى رأيت الجماعة (المحلية) الأخرى في حركة ومرج ودوران.. كل عنصر يُبدّل موقعه، لكن في نفس الحلقة والدائرة.. وإذا بشخص ينبعث من الوسط إلى الجانب، يعكس بواسطة ملابسه البيضاء أكبرَ قدر مِن ضوء الشمس، بقعة ناصعة..
أمعنت النظر متحاملا على قوة الشعاع، بسرعة عرفت القصد والمعنى.. إنها أرملة تلبس البياض! عنوان فَـقْدِها زوجها.. كل شيء أبيض ككوبِ لبَن! كَـكَفَن غيْر مَخيط!
كنت أعتقد أن مُدة ارتداء الأرملة الأبيضَ لا يتعدى شهرا! حتى ظهر الخيط الأبيض من الأسود، إثر حديث عابر مع صديق، كان له الفضل في تصحيح معلومة لا تُخفى على أحد!
ثم تأكدتُ مِن وجوب لبْس الأرملةِ الأبيضَ مدة أربعة أشهر وعشرة أيام!
هكذا تبقى علامةً مميزة طيلة هذا الزمن أينما حلت وارتحلت. كل العيون تنظر إليها بشفقة، وهي ـ المسكينةـ لا ترفع عينا ولا تصدح بلسان.. مستسلمة لهذا الإخراج الممسرح، ولا تستطيع عن ذلك بديلا ولا احتجاجا أو تذمرا..
طرحت تساؤلاتي على عارفين، كلّ فسّر الظاهرة بما يراه ويُـناسبه.. هناك مَن قال إنها في مرحلة «العِـدة»، وحتى يظهر إن كانت حاملا مِن بعلها الهالك أم لا!
لم يقتنع صاحب هذا الرأي رغم قولي له، إن النساء يتأكدن من الحمل خلال شهر واحد، إذا ما انقطع الطمث.. كما أن العِـلم دخل على الخط، وأصبح من السهل الـتأكد من الحمل، بمجرد تحليل البول، ناهيك عن التصوير بالصدى، وحلول أخرى..
وهناك من أعطى للظاهرة تفسيرا آخر ذا بُعد اجتماعي لم يكن يخطر على بالي.. مفاده أن ارتداء الأرملة اللباس الأبيض الذي لا تشوبه شائبة لون آخر مِن قمة الرأس إلى أخمص القدمين، له معنى بليغ حسب قوله، وهو أن كل ذلك دعوة مبطنة موجهة للرجال!
كأنني لم أفهم، حملقت في عينيّ مُخاطبي مستفسرا ومستزيدا. فطفق يشرح بحماس فيّاض وكأنّ جُموع الرجال، أو بالأحرى الذكور، قد اُختصروا في شخصي أنا المُنصت باندهاش!
مما قاله، أن السيدة الآن، بعد وفاة زوجها السابق، مستعدة للاقتران بـ «فَحْلٍ» آخر!
أدليت بملاحظة لم تُفحم صاحبي، قلت له، حتى العجائز الموغلات في العُمر يرتدين نفس اللباس!
رأيت السيدة لابسة البياض تدخل من جديد وسط تلك الكوكبة المائجة، فسحوا لها ممرا وسطهم، بعدما نودي عليها من الداخل..
أكاد أختنق! أريد الحديث مِن جديد في هذا الشأن مع أي كان. مَن سيسمعني؟ الجميع مُطبّع مع الظاهرة، وقبل غسل جثت أي متزوج وجلْـبِ كفن له، هناك مَن يحمل لأرملته بياضها قبل أن يرتد إليها طرفها! وكأنّ لباسها «الجديد» هذا مُعدا لها سلفا، ظل ينتظر في أقرب خزانة إلى مدّ ذراع!
امتلأ وجداني بالأحاسيس، غَـلى الدم في عروقي، فاض خاطري بالمشاعر ككأس عامر أُلقيت فيه حصىً.. لم أجد بجانبي غير السائح، طفقت أحدثه وأشرح له باللغة الأجنبية التي أعرفها.. كمن تلقى عوضا عما فاته من شرح المرشد السياحي، قابلني باهتمام بالغ حفزني أكثر، أرهف السمع، كلّمته عن السيدة التي دخلت المصرف، وعن ظاهرة ارتداء الأرملة الأبيض لمدة طويلة، وعن ما قد يعنيه ذلك..
انضم إلينا ثلاثة سياح كانوا الأقرب إلينا. الجميع أبدى بالغ الاهتمام.. المرشد السياحي بدوره يقصدنا مهرولا، والغضب باد على محياه، وقد انتفش زغب لحيته كتيس يستعد لمقارعة خصم عنيد! أو كأسد جائع ينقضّ على فريسته..
صاح غاضبا يتهمُّني، بأنني أعتدي على مهنة منظمة بالقانون، وأنني أنتحل صفة، مما يستوجب العقاب، وأن الإرشاد السياحي له مختصّوه، وهم مُنظّمون في إطار جمعية وطنية، ويؤدون الضرائب..
لم يمهلني كي أفسر له، أخرج هاتفه من جيبه، وانزاح جانبا يتحدث منه..
بسرعة وكأنني في سباق مع الزمن، أضفت ما يلزم من جمل مختصرة. التفّ حولي جميع السياح، وتزاحموا حتى كادوا يلامسونني.. أظن أنهم فهموا كل شيء.. انطلق همس بينهم، والسائح الأول الذي تحدثت إليه في البداية، تكفل بتوزيع باقي الشروحات على الملتحقين. رأيت الجميع يشرئب نحو المصرف ونحو الجماعة التي تتدافع أمام بابه..
سألني السائح الأول عما إذا كان ممكنا الاقتراب من المكان أكثر. قلتُ له لا مانع في ذلك. مادام الجميع في شارع مفتوح للعموم.. ثم طلب مني أن أرافقه.. قطعنا الطريق، تبِعَـنا الآخرون كسرب نحل.. رأيت المرشد السياحي آخِر مَن يلتحق بنا..
خرجت الأرملة من المصرف، فسح لها المتحلقون مرة أخرى ممرا. شابة جميلة رغم شحوبها الظاهر، في مقتبل العمر، لم تتجاوز العقد الثالث.. واقفة أمامنا لا تدري شيئا مما يدور حولها. تأخذ بيدها أوراقا مالية، تلتفت يمينا ويسارا، ظهر شاب أصغر منها سنا، أمدته بالنقود..
في نفس اللحظة حلت بالمكان سيارة تابعة للأمن، نزل منها رجلا أمن، تقدما نحو تجمّعنا، على وجهيهما حزم وصرامة..
أخرج السائح الذي تحدثت إليه أوراقا مالية زرقاء، أظنها ثلاثا أو أربعا. مدها لي، وقال إنها مساهمة منه للأرملة.. تفاجأت بهذه الالتفاتة، لم أبد أية حركة..
قاد المرشدُ السياحيُّ الشرطيَـيْن نحوي.. السائح يلح عليّ كي أتسلم النقود وأحوّلها إلى السيدة..
طلب مني شرطي بطاقة تعريفي والبطاقة المهنية، وسألني إن كنت مرشدا سياحيا.. تحسست محفظتي كي أخرج بطاقة التعريف..
انتفض المرشد السياحي مُشهدا الشرطيين، قائلا بأنني وكما يريان ويُعاينان، لا أكتفي بتقمص مهنة، بل، وأزاول «مهنة» أخرى، يُعرّفها القانون بـ «الاتجار في البشر»!
حينذاك ثارت ثائرة رجلي الأمن أكثر.. طلب أحدهما بواسطة جهاز الإرسال تعزيزات أمنية.. وتلقينا جميعا أمرا بلزوم أماكننا، وأن لا يتحرك أحد، سواء أكان مُتّهَما أو شاهدا..
حاولتُ أن أشرح، لكن الجلبة التي ازدات حِدتها، لم تسمح بأي كلام. وقد اختلط الحابل بالنابل، وانضاف آخرون مِن المارة..
رأيت أن السائح شرح قصدَهُ للمرأة وللشاب مُرافِـقُها.. تسلّمتْ منه الأوراق المالية، وانحنت أمامه شاكرة صنيعه.. توجّه إليها أحد رجلي الأمن، وقال لها، إنها هي الأخرى معنية بالتوقيف، وعليها ألا تتحرك من مكانها..
وصلتْ إلى عين المكان سيارة أمن كبيرة الحجم، ولحقت بها سيارة أخرى صغيرة.. أمَرنا رجال الشرطة بالصعود إلى السيارة الكبيرة؛ أنا والسائح والمرشد السياحي والسيدة الأرملة، لكنهم لم يسمحوا لأخيها كما نعتته بِمُرافَـقَـتِها رغم إلحاحه.. قالوا له، إنهم سيأخذوننا إلى أقرب مركز للأمن..
يبدو هدوء غريب على السائح. المرشد السياحي يمسد لحيته وينظر إلي بتشف. والمرأة توصي أخيها بصوت مرتفع يعلو على هدير المحركات وجلبة المتحلقين قبل إغلاق الباب.. وأنا أضرب أخماسا على أسداس! وإن كان هناك عندي أمل، بحيث إنني لم أترتكب أية مخالفة.
انطلقت السيارة وهي تطلق صفيرا.. أخرجتُ هاتفتي، وبحثت عن العقوبات التي تقابل التّهم التي خصني بها (المعتوه) المرشد السياحي.
وجدت أن انتحال صفة مرشد سياحي، تستوجب عقوبة حبسية ما بين ثلاثة أشهر وسنتين..
والتهمة الثانية، المتمثلة في «الاتجار في البشر»، تبدأ عقوبتها الحبسية من عشر سنين، وتمتد إلى عشرين سنة، مع غرامة مالية تقدر ما بين مائة ألف درهم ومليار سنتيما!
اُدخلنا قاعةً فسيحةً بها كراسي، جلسنا وكلٌّ مِنّا يحاول استقراء وجوه الآخرين. وقف شرطي بجانب الباب، وشرع كل مرة ينادي على أحدنا. ابتدأ بالمرشد السياحي، ولما عاد هذا الأخير إلى مكانه، بدا انشراحٌ واضحٌ عليه.. ثم نودي على السائح الأجنبي.. وقبل عودته، أشار إلي الشرطي كي أقوم، ثم وجّهني نحو مكتب جانبي.. وجدت في انتظاري ثلاثة رجال شرطة، أحدهم ضابط من الهيأة الحضرية، والآخران مفتشا شرطة بلباس مدني..
كما يحدث دائما في إجراءات التحقيق، أدليت مجيبا عن الأسئلة، موضحا هويتي، ومهنتي، ومحل سكني.. ثم وضحت ما وقع بالضبط، وأن كل ذلك لا علاقة له بانتحال مهنة، أو المتجارة في البشر!
قال لي الضابط، نحن لا نتهم أحدا، إننا ما نزال في مرحلة البحث التمهيدي، وكان لزوما علينا إحضاركم إلى هنا، من واجبنا حفظ الأمن، والتحقق من جميع الحالات..
قبل أن يسترسل في كلامه، رن هاتفه المحمول، حمله وغادر المكتب..
بعد لحظة عاد، وطلب مني أن أعود إلى القاعة.. وجدتُ الأجنبي بدوره قد رجع.. ولم أعرف هل وقع استجواب السيدة أم لا..
دخل علينا ثلاثة ضباط شرطة، أحدهم الذي كان قد شرع في التحقيق معي.. خاطبنا هذا الأخير بقوله، إنه لا تهمة قائمة، ولا أحد متهم.. ولم يكن ممكنا التأكد من ذلك سوى بعد إحضاركم.. وطلب منا أن نغادر..
في الباب قال لي الضابط، وما دخلك أنت في لباس الأرملة؟ ولماذا تشرح ذلك للأجانب؟ لم أجبه بشيء، تبعت المُنصرفين..
على السلم الخارجي، ونحن ننحدر إلى الشارع، اقترب مني الأجنبي، حيّاني، وطلب العذر عما وقع، وأضاف بأنه متفهم جدا، وليس لديه أي تعليق، واعتبر الحادث تجربة مهمة، تدخل في خانة الاكتشافات السياحية ومفاجآتها.. ورجاني أن أمده بمعلومات أو روابط (tes coordonnées) كما قال، كي نبقى على اتصال!
استعملنا لذلك هاتفينا، وتمّ كل شيء بسرعة، خاصة عقد رباط صداقة بواسطة أحد مواقع التواصل الاجتماعي..
رأيت الأرملة تتوجه نحو أقارب لها يتوسطهم أخوها، ورجل كبير السن أظنه أباها، بالإضافة إلى ثلاث نساء..
بينما نزل من سيارة كبيرة الحجم شخص ببذلة بنية وربطة عنق زرقاء تناسب إداري رفيع، استقبل السائحَ، حيّاه بحرارة كأنه نحج في امتحان تَخرّج!
عاد نحوي السائح، واقترح عليّ أن أركب معهم ليوصلونني إلى وجهتي كما ذكر. اعتذرت عن ذلك، مفضلا إتمام جولتي.. وقال إنه سيتصل بي..
ثم مشى نحو الجماعة التي التفّتْ حول الأرملة، بعد حديث معهم، رأيت الجميع يستقلون السيارة الكبيرة..
أمس وصلتني من الأجنبي بعدما توطدت صداقتنا وحدثني مرار عن إعجاب بالبلد، الرسالة التالية:
صديقي مصطفى، يسرني أنا وزوجتي بشرى أن ندعوك لحفل زفافنا بقاعة «الأمل» الموجودة بالمدخل الشمالي للمدينة..
عدتُ بالقطار إلى المدينة التاريخية على عجل، حملتني سيارة أجرة إلى قاعة الحفلات، انحشرت وسط حشد المدعوين، تصدح موسيقى وأهازيج.. تظهر ببشرى بإشراقة فاتنة تحت الأضواء الملونة رفقة زوجها السيد Bernard بفستان أبيض لامع..
فـسـتان الأرمـلـة
الكاتب : مصطفى لمودن
بتاريخ : 28/07/2023