هناك أحداث كثيرة ومواقف متعددة ،وذكريات تراكمت على مر السنين، منها ما تآكل مع مرور الزمن، ومنها ما استوطن في المنطقة الضبابية من الذاكرة، لكن تبقى هناك ذكريات ومواقف وصور ،عصية على الاندثار والمحو ،لأنها بكا بساطة ،كان لها في حينه ،وقع في النفس البشرية، ليمتد هذا الوقع إلى القادم من الأيام من حياة الإنسان.
في هذه الرحلة، ننبش في ذاكرة كوكبة من الفنانين ،حيث منحتهم إبداعاتهم ، تذكرة الدخول إلى قلوب الناس بدون استئذان، وهي إبداعات فنية ، استحقت كل التقدير والاحترام والتنويه داخل المغرب وخارجه، كما استحق أصحابها الاحتفاء بهم ، ويجدوا أنفسهم وجها لوجه مع ملك البلاد.
هنا نستحضر، ونسترجع بعضا من ذكريات هؤلاء الفنانين المبدعين مع ملوك المغرب ، بعدما صنعوا أسماءهم بالجد والاجتهاد والعطاءات الثرية كما وكيفا، واستطاعوا فرضها في ساحة تعج بالنجوم .
شكل الفنان القدير فتح الله لمغاري، أحد أعمدة الأغنية المغربية، وقد كانت إبداعاته الفنية سببا في ولوجه القصر الملكي مع كبار الفنانين المغاربة والعرب، حيث تطورت علاقاته هناك مع كبار الفنانين الذين كانوا يحلون ضيوفا على جلالة الملك الحسن الثاني، خاصة من مصر الشقيقة.
الموسيقار عبد الواحد التطواني قال في شهادة له لجريدة الاتحاد الاشتراكي في حق الفنان القدير فتح الله لمغاري، إنه فنان رائد في مجال الأغنية المغربية، أعطى الكثير من الكلمات الجميلة التي تغنى بها الفنانون المغاربة، لحن لنفسه مجموعة من الأعمال الناجحة التي مازالت حاضرة في وجدان المغاربة إلى يومنا هذا، فتح الله لمغاري إنسان بما تحمله الكلمة من معنى، كان صديقا رحمه الله، عرفته منذ بداية مشواري الفني، فكان نعم الصديق الوفي، والإنسان الطيب الخلوق، يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم، إنسان ترك بصمة خالدة في تاريخ الأغنية المغربية.
يبقى فتح الله لمغاري، تقول شهادة عبد الواحد التطواني، واحدا من الثالوث المكون من أحمد الطيب العلج، رحمه الله والراحل علي الحداني تغمده الله بواسع رحمته، في كتابة الأغاني، الذين أغنوا الخزانة بالروائع، إضافة إلى عبد الله شقرون وحمادي التونسي وغيرهم.
«صوت الحسن ينادي»، هذا العمل الوطني، يضيف عبدالواحد التطواني، أرخ للمسيرة الخضراء، وكان إلى جانبه الملحن الفنان عبدالله عصامي، أطال الله في عمره، ومجموعة من الفنانين من العازفين بالجوق الوطني على رأسهم موزع الأغنية الفنان الراحل عبدالسلام خشان، بالإضافة إلى مجموعة من الأصوات التي أدت هذه الأغنية، منهم الفنان الراحل أحمد الغرباوي، والراحل الفنان محمد الحياني والفنان الراحل إسماعيل أحمد والفنان محمد علي ومجموعة من المطربين المغاربة الآخرين، الذين ساهموا بأصواتهم في هذا العمل الرائد والخالد.
هذه الأغنية، يضيف عبد الواحد التطواني، اعتبرها الأغنية الثانية بعد النشيد الوطني.
فتح الله لمغاري كشف في لقاءات صحفية أن ذكرياته تبتدئ في سنة 1968، يقول في هذا الصدد، حينما كنت مسافرا رفقة عبد الهادي بلخياط إلى مدينة فاس، وقد حكى عبد الهادي هذه الحكاية في إحدى لقاءاته التلفزيونية، كنا في الطريق إلى العاصمة العلمية ومررنا على طريق الخميسات، وقلت له: آجي تسمع «المزوكي»، واكتشف هذا الإيقاع الذي يمكن أن يستثمر في إحدى الأغاني، هذا الموال يتغنى به الأمازيغ عن الطبيعة بين الجبال، ومن ثمة انطلقت الأغنية التي يحفظها المغاربة، والتي مطلعها: «ماهاهاهاها… نار شعلت وزاد لهيبها، شغلت بالي بتعذيبها، فينك يا طافي النار… في قلبي جرح قديم ياني آجا ماداواه…ما لقيت رحيم ومالقيت طبيب يا ناس مخصص دواه…صابر نتسنى والصبر غيرو ما نلقاه….».
حكايات لمغاري مع أغنية «جرح قديم» التي لحنها الراحل عبد الرحيم السقاط لا تنتهي، فقد حكى صاحب «يا رجال الله» أنه في إحدى الزيارات المتعددة التي كان يقوم بها العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ للمغرب، شاءت الصدف أن يكون حاضرا أثناء أداء عبد الهادي بلخياط لأغنية «جرح قديم» فلم يقو على الاستماع لهذا الموال، ولم يقو على سماع كلمات ولحن وأداء الأغنية، لقد افتتن بها وبقي مشدودا لها وأعجب بها أيما إعجاب، كما عبر الملحن المصري الشهير بليغ حمدي، الذي كان المغاري يستضيفه باستمرار في بيته، عن إعجابه بهذه الأغنية.
ذات مرة، وفي إحدى المناسبات، يقول الفنان صالح الشرقي رحمه الله، نادى الملك الحسن الثاني الشاعر الغنائي فتح الله المغاري، وخاطبه قائلا: «أنت كاتب جيد للكلمات، فلماذا لا تتعامل مع الملحنين والمغنين، بدل أن تقوم بالتلحين والغناء لنفسك فقط؟ إن هذا التعاون الفني سيعطي كلماتك وقعا أكثر قوة في أذن المستمع».
وقد بلغ من اهتمام الملك الراحل الحسن الثاني بالفن والفنانين، أن استقدم كبار الفنانين من المشرق العربي إلى المغرب، كالموسيقار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وفايزة أحمد، ليكون هناك نوع من التلاقح والتبادل والاحتكاك الفني بينهم وبين نظرائهم وزملائهم من الفنانين المغاربة.
والحسن الثاني، يقول صالح الشرقي، هو الذي اقترح على المطربة صباح أن تغني بصوتها الأغنية الشائعة «ما أنا إلا بشر»، لعبد الوهاب الدكالي، فحققت انتشارا واسعا، في ذلك الوقت على كل الألسنة.
لقد كانت للحسن الثاني رؤية واضحة لدور الفن في التقارب بين الشعوب، والرفع من مستوى التحضر على جميع المستويات.
ويعتبر الفنان فتح الله لمغاري أن أغنية «جرح قديم» تعد من أهم الأغاني في تاريخ الأغنية المغربية واستطاعت أن تصمد لعدة عقود، وكانت نموذجا لاشتغاله مع بلخياط الذي تكرس في أغنية «الصنارة» التي لحنها محمد بنعبد السلام.