هناك أحداث كثيرة ومواقف متعددة ،وذكريات تراكمت على مر السنين، منها ما تآكل مع مرور الزمن، ومنها ما استوطن في المنطقة الضبابية من الذاكرة، لكن تبقى هناك ذكريات ومواقف وصور ،عصية على الاندثار والمحو ،لأنها بكا بساطة ،كان لها في حينه ،وقع في النفس البشرية، ليمتد هذا الوقع إلى القادم من الأيام من حياة الإنسان.
في هذه الرحلة، ننبش في ذاكرة كوكبة من الفنانين ،حيث منحتهم إبداعاتهم ، تذكرة الدخول إلى قلوب الناس بدون استئذان، وهي إبداعات فنية ، استحقت كل التقدير والاحترام والتنويه داخل المغرب وخارجه، كما استحق أصحابها الاحتفاء بهم ، ويجدوا أنفسهم وجها لوجه مع ملك البلاد.
هنا نستحضر، ونسترجع بعضا من ذكريات هؤلاء الفنانين المبدعين مع ملوك المغرب ، بعدما صنعوا أسماءهم بالجد والاجتهاد والعطاءات الثرية كما وكيفا، واستطاعوا فرضها في ساحة تعج بالنجوم .
يتذكر الموسيقار عبد الواحد التطواني الأجواء التي عاشها القصر الملكي بالصخيرات، ساعات قليلة قبل الانقلاب الفاشل، وكذلك يستعرض أسماء ضيوف جلالة الملك الذين جاءوا خصيصا للاحتفاء بذكرى عيد الشباب.
يتذكر الفنان القدير عبد الواحد التطواني هذه اللحظة التي من المؤكد أنها ستبقى حاضرة ومحفورة في الذهن، بكل التفاصيل والجزئيات، وفيها وعنها يقول :
“في عيد الشباب سنة 1971، كنا نعيش أجواء من الاحتفالات، وفي الليلة التي ستسبق ليلة الانقلاب الفاشل، كان هناك حفل بحضور مجموعة من الفنانين العرب وبعض الفنانين المغاربة الكبار، يتقدمهم الراحل الكبير أحمد الغرباوي، إبراهيم العلمي، أحمد البيضاوي، المعطي بنقاسم، إسماعيل أحمد، وفي هذه الليلة أيضا كانت الفرقة الماسية حاضرة برئاسة أحمد فؤاد حسن وأيضا محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ومحمد رشدي وعازف القيتار عمر خورشيد، وفايزة أحمد، والفنان صلاح ذو الفقار زوج شادية وغيرهم من الفنانين المصريين، ومن لبنان حضر وديع الصافي ومعه عازف قانون وعازف كمان وعازف آلة الرق ثم الجوق الملكي الذي يرأسه الكومندار رتبي والفنان العربي الكوكبي وعبد ربه.”
يواصل الموسيقار عبد الواحد التطواني استحضار هذا اللقاء ويضيف قائلا:
” وصلنا إلى قصر الصخيرات في الساعة الثامنة مساء، نزلنا من الشاحنات العسكرية التابعة للحرس الملكي بلباسنا العسكري الموسيقي الخاص بالفرقة، وهو عبارة عن سروال أزرق بشريط أحمر في جنباته، وحذاء أسود ومعطف بلون أحمر مع قميص أبيض بالإضافة إلى ” البابيون “، انتظرنا كما العادة في ساحة القصر بالقرب من ملعب الغولف الملكي الذي كان عن شمالنا ننتظر أوامر جلالته بالدخول عليه، بدأ الفنانون العرب من المدعوين بالوصول تباعا إلى القصر، وكان أول الوافدين الراحل محمد عبد الوهاب وزوجته نهلة القدسي، ثم الفنانون المغاربة، في الساعة التاسعة تقريبا خرج من داخل القصر الحاج سلام الفيلالي يأمرنا بالدخول إلى داخل القصر، ذهبنا جميعا إلى وسط القصر من ناحية اليمين، وصعدنا درج المسرح المطلة نوافذه على المحيط الأطلسي، وأخذت الفرقة الماسية مكانها شمال المسرح، حيث يجلس الملك الراحل الحسن الثاني، أخذت الفرقتان الموسيقيتان في دوزنة الآلات الموسيقية، وبعد مدة ليست بالقصيرة، دخل الحاج سلام الفيلالي معلنا قدوم جلالته، فتح ستار المسرح الذي كان مغلقا علينا وأطل جلالته برفقة الأمير الراحل المولى عبد الله رحمه الله والحاشية الخاصة بجلالته، نادى فينا الكومندار رتبي ” بالكم ” وقف الجميع لتحية الملك وتقدم إلى السلام على جلالته متبوعا بالراحل العربي الكوكبي ثم عبد ربه، بعد أن أشار على الجميع بالجلوس، جلس بقربه وعن شماله الأمير مولاي عبد الله، ثم قدم محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ للسلام عليه، فأمرهما بالجلوس بالقرب منه، بينما باقي الحاشية في صف على الكراسي بجانب حائط المسرح، أخذ الملك يحادث الضيوف ونحن في انتظار أوامره، بعد مدة سمعنا جلالته ينادي على الفنان الراحل العربي الكوكبي ليسلم عوده إلى الفنان محمد عبد الوهاب وأمره بالعزف به، أخذه محمد عبد الوهاب ونقر عليه فوجده في دوزنة عالية، ليشرع في التقسيم على نغمة ” راحة الأرواح ” ثم دخل في دولاب أغنية ” دارت الأيام ” وصاحبه في العزف أحمد فؤاد حسن على آلة القانون، أخذ محمد عبد الوهاب يمتع الحضور في الوقت الذي كان فيه الراحل أحمد الغرباوي يصيح بأعلى صوته ” الله … الله !” فكان الملك الراحل الحسن الثاني يشير إليه ويأمره ” اسكت الغرباوي ! “، انتهى محمد عبد الوهاب من الغناء تحت تصفيق الحاضرين، بعدها وبفترة قصيرة نادى جلالته على الفنان الراحل أحمد البيضاوي وأمره بالتقسيم على نفس العود الذي غنى به محمد عبد الوهاب.