هناك أحداث كثيرة ومواقف متعددة ،وذكريات تراكمت على مر السنين، منها ما تآكل مع مرور الزمن، ومنها ما استوطن في المنطقة الضبابية من الذاكرة، لكن تبقى هناك ذكريات ومواقف وصور ،عصية على الاندثار والمحو ،لأنها بكا بساطة ،كان لها في حينه ،وقع في النفس البشرية، ليمتد هذا الوقع إلى القادم من الأيام من حياة الإنسان.
في هذه الرحلة، ننبش في ذاكرة كوكبة من الفنانين ،حيث منحتهم إبداعاتهم ، تذكرة الدخول إلى قلوب الناس بدون استئذان، وهي إبداعات فنية ، استحقت كل التقدير والاحترام والتنويه داخل المغرب وخارجه، كما استحق أصحابها الاحتفاء بهم ، ويجدوا أنفسهم وجها لوجه مع ملك البلاد.
هنا نستحضر، ونسترجع بعضا من ذكريات هؤلاء الفنانين المبدعين مع ملوك المغرب ، بعدما صنعوا أسماءهم بالجد والاجتهاد والعطاءات الثرية كما وكيفا، واستطاعوا فرضها في ساحة تعج بالنجوم .
بالقصر الملكي بالصخيرات سنة 1971، كان الموسيقار عبد الواحد التطواني شاهد عيان على المحاولة الانقلابية التي باءت بالفشل، لكن ذهب ضحيتها عدد من الأبرياء، ويتذكر أحداثها بالتفصيل.
كما هو معروف فقد أمر الكولونيل اعبابو، الفنان عبدالحليم حافظ بقراءة البيان الأول للانقلاب التي فشل، بعدما تصادف وكان متواجدا بمقر الإذاعة الوطنية لتسجيل أغنية كان سيقدمها في عيد الشباب، لكن حليم تحجج بكونه مصريا، وأقنع اعبابو بوجهة نظره حتى لايقال إن الانقلاب وراءه مصر، ليتم تكليف الملحن عبد السلام عامر بهذه المهمة.
رفض عبدالحليم حافظ لم يقتصر على هذا الأمر، بل رفض طلبا لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني، كما صرح بذلك صديقه الموسيقار حلمي بكر في أحد الحوارات المطولة التي أجريتها معه بمنزله في القاهرة، ونشر هذا الحوار في ثلاث صفحات بجريدة الاتحاد الاشتراكي، يقول حلمي بكر بالحرف:
“هناك ذكرى لن تمحي من ذاكرتي، حينما سافرت وعبد الحليم حافظ، حينما كانت هناك محاولة انقلابية ضد الملك الراحل الحسن الثاني، التي نجا منها. كان من المفروض أن أسافر مع عبد الحليم في السنة المقبلة، لكن الملك الحسن الثاني كان ”زعلان” من عبد الحليم، بعدما أقدم الانقلابيون على الإمساك بعبد الحليم وطلبوا منه تلاوة البيان الشهير على أمواج الإذاعة، لكنه رفض، وقد طلب منه الحسن الثاني قيادة مظاهرة شعبية، لكنه رفض”.
لم تنجح المحاولة الانقلابية كما هو معروف، وكيف استطاع الملك أن يسيطر على الموقف في هذه الظروف العصيبة، وأعاد الجنود والضباط الموالين إلى امحمد اعبابو إلى صفه، ليلقي في اليوم الموالي خطابه الشهير والذي قال فيه:
“إن بلدنا محسود. وإن الغبطة التي نعيش فيها لا يريدها لنا كثير من الناس. وهكذا سمعتم أن بعض الإذاعات، وعلى رأسها إذاعة ليبيا، بمجرد ما سمعت خبر العملية، صارت تصرح وتقول إنها بجانب الثوار، وأن جيشها بجانب المشعوذين. وهكذا ترى، شعبي العزيز، حينما أقول لك: كن يقظاً، كن على بيّنة من أمرك، حتى لا يعبث بك العابثون، لم أكن من الذين يزيدون أو يطنبون في الكلام. ولقد كنتَ اليوم، يا شعبي العزيز، ستُمسي يتيماً، ولكنّ الله سلّم”.
تفاصيل هذه المحاولة الانقلابية، كما جرت داخل القصر الملكي، يرويها الموسيقار عبدالواحد التطواني كما عاشها بجزئياتها، يقول كانت هناك مشاهد مرعبة، الدماء تغطي كل مكان، تحول معه العشب الأخضر إلى لون أحمر قاني، كذلك مياه المسبح، كل ذلك حدث في تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة، يواصل الموسيقار عبد الواحد التطواني سرد الأحداث ويقول:
“جلسنا على ركبنا وأيدينا مرفوعة إلى فوق، وحينما كنا نحس بالعياء كنا نضع أيدينا فوق أعناقنا، ليطلب منا بعنف وبكلام ناب وبوحشية شديدة، أن نقوم مرة أخرى برفع أيدينا إلى فوق، كنت أعرف الساعة من يد شخص آخر أمامي لما يرفع يديه إلى أعلى، أظن كانت الساعة الخامسة والنصف، قال لنا أحد الجنود الذي كان من حراسنا “سمعوا انتوما عاش الملك … عاش الملك «، وظل يردد جملة عاش الملك ومن معه من الجنود ويرفعون سلاحهم إلى الأعلى، كان من بين الأسرى أحد المدعويين الفرنسيين الذي خاطبنا بالفرنسية:
” Mais calmez-vous “، ظنا منه أنها فقط وسيلة ليتخلص من الجنود حتى لا يطلقون النار علينا، نهض في الصف الأول الدكتور الخطيب وتبعه أحمد بنسودة، فبدأنا بالنهوض والجنود لا يبدون أي عنف، وهناك من طلب الماء من معتقلينا وكأننا كنا في حلم ونحن نمشي وراء بنسودة والدكتور الخطيب، رأينا الجنرال أوفقير وضابطين في ما بعد سأعرف أحدهم هو القبطان المنشق أحمد رامي، وهم يحملون الرشاشات وبالبذلة العسكرية، استوقفهم سي أحمد بنسودة، رحمه الله، وسأل الجنرال أوفقير ” فين سيدنا ؟ ” أجابه الجنرال أوفقير ” سيدنا بخير سيرو لباب القصر هاهو غادي يخرج لعندكم “، توجهنا مسرعين إلى ذلك المكان، حيث خرج جلالته، رحمه الله، إلينا والكل يهنئه على السلامة، فقال لنا جلالته ” بسم الله نقراو الفاتحة ” بعد نهاية سورة الفاتحة خاطبنا جلالته وقال لنا ” كل حنطة تقلب على أصحابها ”، يعني كل مهنة تبحث عن قتلاها وجرحاها، فكان من الجوق الملكي قتيلان، رحمهما الله، هما عازف الكمان ” الوزاني ” الذي وجدناه فوق الأمواج، فحينما هرب في اتجاه البحر لم يستطع الهروب مع الهاربين، لأن الانقلابين كانوا قد أنهوا تطويق القصر، فاتجه نحو البحر لكن الجنود لم يمهلوه وقاموا برميه بالرصاص، لن أنساه ماحييت والأمواج تلعب بجثته، ثم سيدي الحسن العرايشي الذي شاهدت مقتله حينما حصدت القنبلة اليدوية رأسه، وجريحان هما محمد البوعناني عازف على آلة الكمان، وعلال عازف ألة الباتري.