فنجان قهوة مع شاعرالبرتغال الكبير فِرْنَانْدُو بِيسُّووَا !

خلال رحلتي الأخيرة للبرتغال كنت ذا حظوة كبيرة، إذ شاءت الأقدار أن ألتقي بهذا الشاعر القميئ القامة العالي المقام ..كان جالساً فى مقهاه المفضّلة A BRASILEIRA التي يزيد عمرها عن مائة عام، والتي توجد فى مدينة لشبونة العليا التي يُصعد إليها فى واحدٍ من أقدم، وأكبر،وأعجب المَصاعد فى العالم المُسمّى مِصعد SANTA JUSTA (ينيف عمره هو الآخرعن قرن ونيّف من الزّمان).. فالفنّ الرّاقي العظيم يُصعد إليه ، وهو يُؤتىَ ولا يأتي، ولا يُدرك بسهولة ويُسر، بل بجهدٍ باهظٍ، وكدٍّ كبير، وطول عناء… جلسنا ،تبادلنا أطرافَ الحديث ،أخبرته أنني أنوي كتابة مقالٍ عنه ،وعن مراسلاته الغرامية الشّهيرة مع خليلته، ومُلهمته أوفيليا كيروث..فَسُرّ كثيراً ،وتذكّر قوله عن مراسلات الحبّ هذه، بما فيها تلك التي كانت تبعث بها إليه أوفيليا نفسُها، فكان يقول لها هازئاً ،مُتهكّما ، ومداعباً فى آنٍ واحد : كلُّ رَسَائِلِ الحُبِّ سَخِيفَة ! وكانت تجيبه مُفْحِمةً إيّاه : بل السّخيف هو الذي مَنْ لَمْ يَكتُبْ قطّ رِسَالةَ حُبّ !! عتب على محبوبته هذه القولة التي تغلّب بها منطقها النّسوي الرّقيق الحاذق والعاطفي، على منطقه الرّجولي الجاف الخالص !..ودفاعاً عن نفسه، وذوذاً عن وجهة نظره ..ولكي تتّضح الحقيقة للناس … كلّ الناس وللعاشقين، والوالهين، والهائمين، والمتيّمين منهم ومنهنّ أَذِنَ لي بنشر المقالَ على الفور لعلّها ،ولعلّ بنات جنسها يدركن ،والناس جميعاً يدركون.. فحوى كلماته إليها فى عمقها الأدبي، وبعدها المجازي…وهأنذا، نزولاً عند رغبة شاعرنا الكبير الذّائع الصّيت أمتثل بدون تردّد لطلبه، فهو المَعني بهذا الأمر أوّلاً وأخيراً… وأعجّل بنشر هذا المقال المستوحىَ من شاعريته، وقريحته، وعبقريته، وكذا من إلهام، وذكاء، ودهاء، وفطنة خليلته أوفيليا ، ومن بلده الصّغير الكبير..بلد المسكتشفين المغامرين الصناديد، وموطن الإكتشافات والمغامرات الكبرى .. إنّه الجار الشماليّ الجميل المنسيّ فى كثير من المناسبات من طرفنا ..البرتغال الذي له طعم، ونكهة، ورائحة البرتقال..!!.إليكم أحبّتي ..عزيزاتي هذا المقال:

 

كتبت حبيبته أوفيليا تقول: « فرناندو.. اليوم، كان حظّي تعساً للغاية،هذا هو حال أموري فى المدّة الأخيرة ، كلّها تنتهي نهايةً سيئة، كانت أمنيتي أن تصل ساعة لقائنا وقراننا.. وأخيراً ها قد وصلت، وأنت ما برحتَ تشعر بالسأم من حياتك ومنّي، ألم أعد أروقك يا فرناندو الصّغير..؟ « . هذه كانت أوّل فقرة من أوّل رسالة موجّهة إلى بيسُووّا من خليلته وحبّه الوحيد فى حياته أوفيليا كيروس، الرّسالة تحمل تاريخ 29 سبتمبر1929، حيث كانت أوفيليا حينئذ فى التاسعة والعشرين من عمرها. ويجيبها فرناندو بيسُووَّا قائلاً : « أوفيليا كلّ حياتي تحوم حول أعمالي الأدبية ، جيّدة كانت أم سيّئة، فلتكن كيفما تكون، الجميع ينبغي أن يقتنع أنّني هكذا ،ماذا سيفيد مطالبتي بالأحاسيس التي أعتبر أنّها جديرة وقمينة برجلٍ عاديّ مثلي، إنّ ذلك فى منظوري كمن يطالبني أن أكون أشقر، وذا عينين زرقاوين «.!.
نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ..!
يشير الكاتب الإسباني « أنطونيو خيمينيث باركا « فى مقال له حول هذا الشّاعرالبرتغالي الكبير بعنوان: «رسائل حبّ فرناندو بيسُّووا « للباحثة البرتغالية « مَانوِيلا باريرَا دَاسِيلبَا : « أنّ فرناندو قد تعرّف على أوفيليا أواخر 1919 فى إدارة تجارية حيث كانت تعمل فيها أوفيليا كسكرتيرة، ولم تكن آنذاك تتجاوزالتاسعة عشرة ربيعاً من عمرها، وكان بيسُوّوَا يعمل كمترجم عن اللغة الإنجليزية للرّسائل التجارية لمدّة بضع ساعات في اليوم، وكان في الواحدة والثلاثين من عمره، وفي شهر فبراير من عام 1920وقع فرناندو بيسوّا لأوّل مرّة صريعَ الغرام فى حبّ هذه الفتاة الأنيقة التي تشعّ شبابا ونُضْرة، وذات يوم عندما كانا بمفردهما فى الإدارة قام بيسُوّوَا بمشهد ميلودرامي مسرحيّ غريب أمام الفتاة ، وعلى الرّغم من المفاجأة المثيرة التي جعلت أوفيليا تخرج مُسرعة، ومهرولة خارج الإدارة، فإنّ التصريح بالحبّ المبالغ فيه الذي عبّرعنه بيسّووا لها بتلك الطريقة الميلودرامية المسرحة قد راقها كثيراً، وأثّر فيها تأثيراً بليغاً .
بعد هذه الحادثة الغريبة كتبت أوفيليا الرسالة الغرامية الأولى التي وجّهتها لفرناندو بيسّووَا إنها تقول له فيها:» إنّني أفكّر فيك كثيراً وأفكّر كيف أنني أصبحتُ لا أعير إهتماماً، وأهمل شاباً كنت أعرفه ( خطيبها في ذلك الوقت) والذي كان يحبّني كثيراً»، وتقول أوفيليا :» سأكون صريحةً معك ، إنّني أخشى أن تكون مشاعرالحبّ عندك نحوي ذات أمد قصير. « وتضيف: «إذا كان فرنانديتو (تخاطبه بصيغة التصغير من باب التلطيف والدلل) لم يفكر قطّ في أن تكون عنده عائلة ، فإنني أرجوك أن تخبرني بذلك .»
ويجيب فرناندو بيسُّووَا أوفيليا على هذه الرّسالة الصّريحة والجريئة قائلاً لها:» إنّ الذي يحبّ حقيقة لا يكتب رسائلَ تشبه مطالبَ المحامين. فالحبُّ لا يتعمّق في دراسة وتحليل الأمور، كما لا ينبغي له أن يُعامل الآخرين وكأنّهم متّهمون»..!
رَسَائلُ الحُبّ يَا لِسَخَافتها..!
وتؤكّد الباحثة البرتغالية «مانويلا باريرا داسيلبا» :» أن اللغة المستعملة فى بعض هذه الرسائل المتبادلة بين فرناندو بيسّووَا وأوفيليا كيروس يُفهَم منها أن الحبّ المتبادل بين الشّاعر الكبير وخليلته لم يكن أفلاطونياً كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى ،بل إنّ الحبّ الذي تتعرّض له هذه الرسائل لا يخلو من المداعبات الكلامية، والغرامية، وبعض الإباحية غير المُعْلن عنها بوضوح «. كما تؤكد «داسيلبا»: أنّ الرسائل تحفل بالعديد من المواقف، والمشاهد والأخبارالحياتية، والحميميّة الخاصّة ، كما أنها تتضمّن معلومات عديدة ومختلفة عن العصر الذي عاش فيه فرناندو وأوفيليا، وتتخلل هذه المراسلات الحميمية كذلك نزهات ومحاورات، وذكريات عن لحظات سَمَر، كما أننا واجدون فيها ممانعات من طرف بيسّووَا للتعرّف على عائلة أوفيليا، وهي لا تخلو فى بعض الأحيان فى بعض المواقف من التصنّع، والتكلّف، والتحذلق، وتستشهد الباحثة البرتغالية فى هذا المضمار بكون فرناندو بيسوّوَا قال في ما بعد فى إحدى قصائده الكبرى المعروفة:(أنّ رسائل الحبّ كلّها سخيفة ومُسفّة..!).،وكانت خليلته أوفيليا كيروس قد علّقت على ذاك قائلة :السّخيف هو مَنْ لم يكتب قطّ رسالةَ حبّ !.
وقد بلغ الأمر ببيسُّوَا فى بعض المناسبات لكي يزيد فى نيل رضى أوفيليا ، وتعميق علاقته بها أنْ إدّعى أنه قد ربح جائزة مليونية كبرى فى بعض المسابقات الإنجليزية للتسلية التي كان الشاعرالبرتغالي الكبير مولعاً بها كثيراً وذلك بهدف الزّواج « . كما كان الشاعر بيسّوا فى ذات الوقت يتنكّر ويكتب باسم مستعار وهو « ألفارو دي كامبُوس» وذلك لأهداف نقدية أولأغراض خاصّة ، وكانت هذه الشخصية الخيالية أو الوهمية التي إختلقها تتدخّل كذلك في شؤون بيسّووَا وأوفيليا نفسيهما كذلك !.
ومثلما كان الفيلسوف الألماني « فيردريك نيتشه « يتبارى ويتنافس مع الموسيقار الألماني الذائع الصّيت « رتشارد فاغنر» على الظفر بقلب معاصرتيهما الحسناء الإيطالية الفاتنة «لوسالومي» ، كذلك كان فرناندو بيسوا هو الآخر يتنافس على حبّ وهوى أوفيليا مع خطيبها السّابق وشخصيات أخرى وجيهة ، بعض هذه الشخصيات حقيقية، وبعضها الآخر خيالي منهم «ألفارو دي كامبوس نفسه» (الإسم المستعار لفرناندو بيسّووَا ذاته)، وكان ذلك التداخل بين المحبّين المتيّمين، العاشقين الوالهين يشكّل حجرَ عثرة في سبيل حبّ الشاعر الهائم هياماً شديداً بخليلته الأثيرة . وتؤكّد الباحثة البرتغالية» داسيلبا « فى هذا القبيل :» أنّنا واجدون في هذا الكتاب رسائلَ عديدة موجّهة إلى أوفيليا بتوقيع إسمه الآخر المستعار وهو «الفارو دي كامبوس» حيث كانت ترى فيه أوفيليا شخصية سيّئة غير محبّبة ، بل إنها تقول صراحة» أنّها شخصية لا تروقها ولا تعجبها في شئ البتّة».
رِسَالة وَدَاع. حزينة .!
يودّع فرناندو بيسُوا أوفيليا برسالة حزينة،ومؤثّرة غامضة تحمل تاريخ شهر يونيه 1920 والتي يقول لها فيها:»إنّ قدَري ينتمي لقانون آخر لا تعرف أوفيليا شيئاً عن وجوده بتاتاً ، هذا القانون يخضع أكثر فأكثر لمعلمين لا يمنحون شيئاً، ولا يغفرون» .
بعد إنصرام تسع سنوات شاء الحظ أن يجمعهما القدَرُ من جديد ، لقد أصبحت أوفيليا كيروس سيّدة فى الثامنة والعشرين ربيعاً من عمرها، وأمّا فرناندو بيسّووَا فقد أمسى رجلاً ناضجاً، ولكنّه أصبح مُدمنا لتعاطي « البراندي» وهو منشغل، ومهووس من أجل إتمام وإستكمال عمل أدبي من أعماله الكبرى الذي غدا بين يديه كمتاهة ملتوية لا نهاية لها.
أوفيليا لم تعد تتحدّث الآن عن الزّواج ، كما كانت تفعل من قبل بدون إنقطاع . وطفق بيسُّووَا من جانبه فى الإبتعاد عنها وأصبحت من جرّاء ذلك مراسلاتها إليه تتّسم بحوارعقيم وميؤوس منه من طرف واحد، حيث ما إنفكّت هي ترجوه في كل مرّة أن يكاتبها من جديد ، ثم سرعان ما قرّرت بعد ذلك مطالبته بالفراق النهائي الذي سيحدث فعلاً أواخر 1929 .
وتشير الباحثة البرتغالية داسيلبا :» أنّه في عام 1935 وقبل أشهر قليلة على وفاته رأى فرناندو بيسوّوَا كتابه الوحيد يخرج إلى النّور، وينشر في حياته وهو قصيدته الرّائعة التي جاءت فى شكل رسالة ، وكان هذا الكتاب تحت عنوان: «فى يوم مّا طرقَ أحدُهم البابَ وهرعت الخادمة لفتحه» هذا ما حكته أوفيليا نفسها بعد مرور سنوات عديدة . إنّها تقول في هذا الصدد:» جاء أحدهم بكتاب ، وعندما سلّموني إيّاه وفتحته تبيّن لي أنّ الكتاب رسالة مطوّلة يتصدّرها إهداء، عندما سألتُ عن الشّخص الذي جاء بالكتاب ، وبواسطة الوصف الذي قدّمته لي الفتاة التي إستلمت الكتاب عرفت أنّ الذي إستقدمه كان هو فرناندو بيسوَّا نفسُه ، حينئذ أسرعتُ مهرولة – تقول أوفيليا – نحو باب المدخل، ولكنّني لم أجد أحداً، ومن ثمّ لم أرَ فرناندو بيسوا أبداً من جديد بعد ذلك».
يعرّف فرناندو بيسُوَا نفسَه فى مؤلّفٍ له تحت عنوان» كتاب اللاّطمأنينة « فيقول:» أنا من أرباض مدينة لا وجود لها، أنا التعليق المحظور على كتاب لم يُكتب قطّ ،أنا لست شيئاً ،أنا لست أحداً ،أنا لا أعرف الإحساس، أنا لا أعرف التفكير ،أنا لا أعرف أن أحبّ ، أنا شخصيّة فى رواية لم تُكتب بَعْد ، موجودة فى الهواء، مُحتقرَة، لم تكن قطّ في أحلام مَنْ لم يعرف كيف يُنجزني كاملاً .»
ونختم هذه العجالة عن هذه المراسلات الغرامية، والإجهاشات الحميمية المثيرة بين فرناندو بيسُّووَا وخليلته الوحيدة أوفيليا كيروس بقصيدته التي سبقت الإشارة إليها آنفاً، وهي تحت عنوان» كلّ رسائل الحبّ يا لسخافتها .. « (**) يقول بيسّووَا فيها:
كلّ رسائل الحبّ
سخيفة
فهي لن تكون رسائل حبّ إن لم تكن
سخيفة
فى زماني كتبتُ كذلك رسائلَ حبٍّ
مثل تينك الرسائل الأخريات
سخيفة
رسائل الحبّ، إن كان هناك حبّ
لابدّ لها أن تكون
سخيفة
ولكن فى آخر المطاف
فقط الخلائق التي لم تكتب قطّ رسائلَ حبّ
هي فعلا
سخيفة
مَنْ هو يا تُرى عندما أكتبُ يوحي لي
دون أن أتفطّن لذلك
برسائل حبّ
سخيفة
الحقّ ، أنّ ذكرياتي اليوم
حول رسائل الحبّ تلك
هي بالفعل
سخيفة
كل الكلمات المنبورة
مثل العواطف المنبورة
هي بطبيعة الحال
سخيفة.!
فى 13 يونيو المُنصِرِم حلّت الذكرى الثانية والثلاثون بعد المائة لميلاد الشاعر البرتغالي الكبير «فرناندو بيسُّووَا» الذي كان قد وُلِد في مثل هذا اليوم من عام 1888، وتوفّي فى 30 نونبر من عام 1935.»
** ** **
،عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا


الكاتب : د. محمّد محمّد خطّابي*

  

بتاريخ : 28/08/2020